وإن كثيرا من الأدلة الخطابية تعتمد على أقوى المقدمات إلزاما وأشدها إفحاما ، وإن المنطق مميز لباطل القول وليس موجدا لليقين بذاته ، فإن الأشكال المنطقية أخص خواصها أنها تكشف زور الباطل.
وقد يكون الكلام الخطابى مجملا بالأشكال المنطقية فى مقام الرد على حجج الخصوم ، وكشف زيفها ، وبيان وجه البطلان فيها ، وكثيرا ما تستخدم الخطب التى تقوم على المحاجة ، والجدال والبراهين والأقيسة المنطقية لبيان وجه البطلان فى كلام الخصم.
الأمر الثانى : أنه لا ينطبق ما يقال فى الخطابة والجدل من أنهما يقومان على الأدلة الظنية على القرآن.
ونحن نميل إلى أن الاستدلال القرآنى له طريق قائم بذاته ، وإذا نظرت إليه وجدت فيه ما امتازت به الأدلة البرهانية من يقين لا مرية فيه ، وما امتازت به الأدلة الخطابية من إثارة للإقناع ، وما امتازت به كل خواص البيان العالى. مع أنه لا يسامى ، وهو معجز لكل الناس عربهم وعجمهم.
أسلوب القرآن فى الاستدلال والجدل :
١٥١ ـ إن القرآن خاطب الناس جميعا فى أجيال مختلفة ، وأقوام تباينت مشاربهم ، ومن أجل أن نعرف بلاغة القرآن فى الاستدلال والجدل يجب أن نشير بكلمات موجزات إلى أصناف الناس.
إن طبائع الناس متفاوتة ، ومشاربهم مختلفة ، وأهواءهم متنازعة ، ومسالكهم فى طلب الحق متعددة.
(أ) فمنهم من يصدق بالبرهان ، ولا يرضيه إلا قياس تام أو ما يجرى مجراه ، وهؤلاء هم من غلبت عليهم الدراسات العقلية والنزعات الفلسفية ، وكان لهم من أوقاتهم ما أزجوه فى دراسات واسعة النطاق ، وعلوم سيطرت عليهم ، فسادهم التأمل الفلسفى ، والمنزع العلمى. والمستقرئ لأحوال الأمم المتتبع لشئون الاجتماع يجد أن هذا الصنف قلة فى الناس ، وعددهم محدود بالنسبة لغيرهم ، إذ إن أكثر من فى الأرض قد انصرف إلى المهن من زراعة وصناعة ، فما كان له وقت يزجيه فى تلك التأملات ، ولهذا أمر الله تعالى نبيه أن يدعو إليه بالحكمة فى قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].
(ب) من الناس من غلب عليه مذهب دينى أو غير دينى قد استأثر بلبه ، وسد مسام الإدراك ، إذ استولت عليه نحلة مذهبية فتعصب لها. والتعصب يعمى ويصم ،