أرسل عليهم ريحا شديدة البرد ، فى يوم كله بأس وشدة ، وهو كالنحس عليهم ، طويل فى آلامه ، ومستمر فيها ولو كان الزمن قصيرا ، ثم يصور الله تعالى نزع المشركين من غرورهم واعتزازهم بمالهم وطغوائهم ، وينزعون بعنف شديد لا يقوون فيه على الامتناع ولا الإصرار على البقاء ، كما تنزع مؤخرات وجذور نخل غاصت فى أعماق الأرض.
هذا بريق التشبيه المرعد الذى يصور ما ينزل بالمشركين الذين طغوا فى البلاد وأكثروا فيها الفساد.
ومن التشبيهات التى ذكرها الرمانى على أنها تقرب ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة ، قوله تعالت كلماته : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٣٧) [الرحمن : ٣٧]
وقال فى التشبيه : قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به عادة وقد اجتمعا فى الحمرة وفى لين الجواهر السيالة ، وفى ذلك الدلائل على عظم الشأن ونفوذ السلطان لتنصرف الهمم إلى ما هناك بالأمل.
وإن تصوير التشبيه ، وقصره على ذلك الوجه ، وهو تشبيه ما لم تجر به عادة إلى ما يجرى به عادة ربما يكون غير مصور لمعنى التشبيه ، وما يثير من صور.
إن التشبيه تصوير لما يقع إذ تقوم القيامة ، فالسماء ذلك البناء الذى تجرى فيه الكواكب والنجوم ، كل فى مساره ، وهى البناء الذى بناه الله تعالى شامخا عظيما ذا بروج صار وردة كالدهان.
وفى ذلك تصوير للدنيا إذ تقوم القيامة ، فتكون السماء لينة كالورد الذى يشبه الدهن مبالغة فى ليونته التى تصل إلى حد السيولة.
١٠٨ ـ ويسوق الرمانى أمثلة يتبين فيها تشبيه ما لم يعلم إلا بالنظر بما يعلم بالبداهة من غير محاولة نظر واستدلال ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١] ، ويقول فى التشبيه هنا : «قد أخرج ما لا يعلم بالبداهة إلى ما يعلم ، وفى ذلك البيان العجيب بما قد تقرر فى النفس من الأمور ، والتشويق إلى الجنة بحسن الصفة مع ما لها من السعة وقد اجتمعا فى العظم».
وإنا نجد الآية الكريمة فى تشبيهها ليست من قبيل تشبيه ما لا يعلم بالبداهة بما يعلم بالبداهة ، فإننا نرى أن كليهما لا يعلم بمجرد البداهة ، بل يعلم بالنقل المصدق ، فهما سواء فى صلتهما بالعلم الضرورى ، وإنما إذا قيل أن المراد تصوير المعقول بما يتصور أن يكون مشهودا محسوسا ، والجميع بإخبار الله تعالى ، لا بمجرد النظر ، سواء كان الأمر ضروريا أم نظريا ، وإنا إذا تلونا ما قبل هذا النص وما بعده وهو قوله تعالى :