عطشان صاديا ، حتى إذا أجهدته المشقة وبعد الشقة لا يجد شيئا ، والثانى يعطى صورة لشخص كانت عليه الظلمات توضع واحدة فوق واحدة ، وإذا كانت فيها فرجة يرجو منها الرؤية لا يصل إليه النور للسحاب الذى كأنه الغمة ، ومن تشبيه الأمر غير المحسوس بالأمر المحسوس ، كالمثل السابق فى قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٨) [إبراهيم : ١٨].
ويقول الرمانى فى التعليق على التشبيه : «فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة ، فقد اجتمع المشبه والمشبه به فى الهلاك وعدم الانتفاع ، والعجز من الاستدراك لما فات ، وفى ذلك الحسرة العظيمة والموعظة البليغة» هذا كلام الرمانى ، وهو صدق ، وإنى أذوق من التشبيه شيئا بيانيا آخر ، ذلك أن أولئك الكافرين كانوا يحسبون أن أعمالهم لها أثر فى الوجود فى زعمهم ، ويتوهمون وقوع ذلك وأنهم قدموا ، ولكنهم يفاجئون بريح شديدة فى يوم عاصف ، تبدد ما كانوا عليه من أحلام ، كانوا يتوهمون أن ما لهم فى الدنيا ينفعهم ، فلما جاء يوم القيامة بددت أحلامهم ، فتقدموا عاطلين فى حلبة العمل الطيب ، وكان ذلك هو الضلال البعيد ، لأنهم زعموا باطلا ، ثم رأوا الحقيقة عيانا ، وفى ضمن القول عبر عن عملهم بأنه سراب ، أى أنه شىء ليست له قيمة ذاتية بل هو هباء فى ذاته.
١٠٧ ـ وقد جاء الرمانى بمثل فيه تشبيه ما لم تجر به العادة بما تجرى به العادة ، وهو قوله تعالى فى توثيق الميثاق على بنى إسرائيل : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١) [الأعراف : ١٧١] ، ويقول فى ذلك الرمانى : «وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به العادة ، وقد اجتمعا فى معنى الارتفاع فى الصورة ، وفيه أعظم الآيات لمن فكر فى مقدورات الله تعالى عند مشاهدته لذلك أو علمه به ، ليطلب الخير من قبله ، ونيل المنافع بطاعته».
هذا ما ذكره الرمانى فى معنى التشبيه. وهو تشبيه ما لم تجر به العادة ، إلى ما جرت به العادة ، كأن التشبيه كان لغرض تقريب المعنى ، وتصوير الغريب كأنه قريب ، وذلك فى تشبيه الجبل مرتفعا كأنه ظلة ، وهذا المعنى فى ذاته صحيح ولكنه فيما أعتقد ، لا يصور معنى التشبيه من كل الوجوه ، لأن رفع الجبل كان لتوثيق الميثاق عليهم ، وحملهم على الأخذ به وإثبات قدرة الله تعالى ، وإلقاء المهابة فى قلوبهم ، فالتشبيه بالظلة للدلالة على الإحاطة ، وتصويره لهم كأنه نازل بهم واقع عليهم ، ليعرفوا أن ميثاق الله له رهبته وأن عليهم طاعته ، ولذلك قال سبحانه بعد أن رأوا الجبل مرفوعا