رَبِّكَ) أو تقريره : لكنا رحمناك رحمة تركته غير مذهوب به ، فيكون استثناء منقطعا (إِنَّ فَضْلَهُ) أي عطاء ربك (كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) [٨٧] أي فضلا عظيما لإعطائك الإسلام دينا واصطفائك بالرسالة من بينهم وبالنصرة والغلبة عليهم وبتنزيل القرآن إليك وبابقائه محفوظا عليك ، وفيه امتناع عظيم على أهل العلم والقرآن ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه في الصدور والمصاحف ، فعليهم أن لا يغفلوا عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما ، قيل : هذه المصاحف ترفع فكيف بما في الصدور (١) ، عن ابن عمر : «لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل ، له دوي كدوي النحل ، يقول الرب : ما لك؟ فيقول يا رب كنت أتلى ولا يعمل بي» (٢).
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨))
ونزل حين قال الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا (٣)(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) متظاهرين (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في بلاغته وحسن نظمه وإعجازه والإخبار عن الغيوب مع ما ضمن فيه من الأحكام والحدود وغيرهما مما لا يعرف إلا بالوحي (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) جواب قسم محذوف لا جواب الشرط ، ولو لا اللام الموطئة لجاز أن يكون (لا يَأْتُونَ) مع النون جواب الشرط ، لأن الشرط وهو اجتمعت وقع ماضيا لا يعمل فيه الأداة ، فجاز أن لا يعمل في الجواب ، المعنى : أنهم عاجزون عن الاتيان بمثله لأنه كلام في أعلى طبقات الكلام من البلاغة لا يشبه كلام الخلق (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [٨٨] أي معينا.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي كررنا (لِلنَّاسِ) بالبيان (فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل شيء هو كالمثل في الغرابة والحسن لما فيه من الأخبار العجيبة والأحكام والأمثال والوعد والوعيد والعبر (فَأَبى) أي امتنع (أَكْثَرُ النَّاسِ) عن القبول أو عن الشكر (إِلَّا كُفُوراً) [٨٩] أي جحودا أو كفرانا مكان الشكر وهذا استثناء مفرغ في المفعول ، لأن «أبى» هنا في معنى لم يرضوا.
(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠))
(وَقالُوا) أي قال عبد الله بن أبي أمية وأصحابه للنبي عليهالسلام (لَنْ نُؤْمِنَ) أي لن نصدق (لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا) بضم التاء وكسر الجيم مشددا من التفجير ، وبفتح التاء وضم الجيم مخففا (٤) ، أي تشقق (مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [٩٠] أي عينا يخرج منها الماء.
(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١))
(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي بستان (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ) أي تشقق (الْأَنْهارَ خِلالَها) أي وسطها (تَفْجِيراً) [٩١] أي تشقيقا ظاهرا ، والتشديد فيه إجماعي لذكر الجمع بعده وهو (الْأَنْهارَ) ، يقال فجرت نهرا بالتخفيف ، لأن مفعوله واحد ، وفجرت الأنهار بالتشديد لكون مفعوله جمعا ، وقد يذكر بالتشديد في الواحد أيضا إذا قصد المبالغة فيه.
(أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢))
(أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ) بقولك إن نشأ نخسف بهم الأرض أن نسقط عليهم كسفا من السماء
__________________
(١) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٥٢٧.
(٢) انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٧.
(٣) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٥٢٧.
(٤) «تفجر» : قرأ الكوفيون ويعقوب بفتح التاء وإسكان الفاء وضم الجيم وتخفيفها ، والباقون بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم وتشديدها ، وأجمعوا على تشديد «فتفجر الأنهار». البدور الزاهرة ، ١٨٨.