أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) [٨٤] أي أوضح طريقا ، يعني يعلم المهتدي والضال ، فيجازي كلا بعمله.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦))
قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) وهو الذي يحيى به الإنسان ، واختلفوا في ماهيته ، قال قوم : هذا الدم ، وقوم : هي النفس ، وقوم : هي معنى ذو نور اجتمع فيه العلم والطيب والبقاء والعلو ، ولم يأت أحد منهم على ما اختاره دليلا يدل على حقيقته ، فالأولى أن يوكل علمه إلى الله تعالى وهو قول أهل السنة ، قال عبد الله بن بريدة : «إن الله لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا» (١) ، نزل حين اجتمع قريش ، وقالوا : إن محمدا نشأ فينا بالصدق والأمانة وما اتهمنا بالكذب ، وقد ادعى النبوة فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة ليسألوا عنه ، فانهم أهل كتاب ، فبعثوا جماعة إليهم ، فقالت اليهود : سلوه عن ثلاثة أشياء ، فان أجابوا عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي ، وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن أحد فهو نبي ، فسألوه عن فتية فقدوها في الزمان الأول ، وأمرهم العجيب وهم أصحاب الكهف وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها وهو ذو القرنين ، فقالوا : أخبرنا عنهما وعن الروح ، فقال عليهالسلام أخبركم غدا بما سألتم ، ولم يقل «إن شاء الله» ، فلبث الوحي خمسة عشر يوما ، وقيل : «أربعين يوما» (٢) ، وأهل مكة يقولون : وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن النبي عليهالسلام من مكث الوحي ، وشق عليه قولهم ، ثم أنزل جبرائيل عليهالسلام (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) إلا إن شاء الله (٣) ، وأنزل في الفتية (أَمْ حَسِبْتَ)(٤) الآية ، وفي ذي القرنين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ)(٥) الآية ، وفي الروح (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)(٦)(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فأشار به إلى أن معرفة حقيقته متعذرة ، يعني علم الروح من علم ربي لا يعلمه غيره ، فبين القصتين كما هما وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التورية ، فندموا على سؤالهم ، فدل هذا على صدق نبوته ، قوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [٨٥] خطاب عام للنبي عليهالسلام وغيره لما روي أن اليهود قالوا له : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال النبي عليهالسلام : بل نحن وأنتم ، لم نؤت (٧) من العلم إلا قليلا ، أي يسيرا في جنب علم الله تعالى ، وقيل : خطاب لليهود خاصة ، لأنهم قالوا قد أوتينا التورية وفيها الحكمة (٨) ، وقد تلوت (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(٩) ، فقيل لهم : علم التورية قليل في جنب علم الله ، والشيء قد يكون كثيرا بالنسبة إلى ما دونه قليلا بالنسبة إلى ما فوقه ، والأصح الأول لظاهر الآية من العموم ولقوله (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ) واللام الأولى التي في «إن» الشرطية للتوطئة والثانية جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط ، أي والله لو شئنا لنمحون (بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي بالقرآن من الصدور والمصاحف حتى لا يوجد له أثر ، يعني نحن منعنا علم الروح عنك وعن غيرك بمشيتنا وقدرتنا ولو شئنا لمحونا القرآن أيضا ، فلم نترك له أثرا وبقيت ك (ما كُنْتَ) لا (تَدْرِي مَا الْكِتابُ)(١٠)(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) [٨٦] أي من يتوكل برد القرآن إليك بعد الذهاب به ، فالعلم في الحقيقة كله لنا لا لكم ، قال عليهالسلام «اقرؤا القرآن قبل أن يرفع ، فانه لا تقوم الساعة حتى يرفع» (١١).
(إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))
قوله (إِلَّا رَحْمَةً) مفعول له ، أي ما حفظناه عليك إلا للرحمة أو تقديره : لكنا لم نشأ ذلك لرحمة (مِنْ
__________________
(١) انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٦.
(٢) عن عكرمة ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٥.
(٣) الكهف (١٨) ، ٢٣.
(٤) الكهف (١٨) ، ٩.
(٥) الكهف (١٨) ، ٨٣.
(٦) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٥ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٤٦.
(٧) نؤت ، ب : تؤت ، س م.
(٨) نقله عن البغوي ، ٣ / ٥٢٦.
(٩) البقرة (٢) ، ٢٦٩.
(١٠) الشورى (٤٢) ، ٥٢.
(١١) انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٧. ولم اعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي رجعتها.