المؤمنين ، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة ، والتفضيل حقيقة لا
يعلمه إلا الله تعالى ، ومن شاء من خلقه وهو لا يظهر إلا في الآخرة بدليل قوله (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ) نصب بقوله (تَفْضِيلاً) ، وقيل : بدل من (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) ، وقيل : مفعول لفعل مقدر ، أي اذكر يوم ندعوا كل أمة (بِإِمامِهِمْ) أي بما يأتمون به من نبي أو كتاب أنزل عليهم أو كتاب في
أعمالهم من الخير والشر ، فيقال يا أصحاب الخير ويا أصحاب الشر أو بمقدم يجتمع
الناس إليه في الخير والشر وهو رئيسهم (فَمَنْ أُوتِيَ) أي أعطي (كِتابَهُ) أي كتاب أعماله (بِيَمِينِهِ
فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي ما فيه من الحسنات ويعطون ثوابها (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [٧١] أي لا ينقص من حقهم قدر فتيل وهو كناية على أدنى
شيء ، وفي الأصل وسخ يفتل بين الإصبعين أو قشر في شق النواة وهي طائفة السعداء ،
ولم يذكر الأشقياء وإن كانوا يقرؤون كتبهم أيضا ، لأنهم إذا نظروا فيه يأخذهم حبسة
اللسان من الخوف والحياء ، فلا يظهرون قراءتهم ، فقراءتهم كلا قراءة بخلاف السعداء
فانهم يظهرون قراءتهم بأحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بذلك وحده حتى يقول القارئ
منهم لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ).
(وَمَنْ كانَ فِي
هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))
ثم قال الله
تعالى حثا على التوحيد والعمل الصالح (وَمَنْ كانَ فِي
هذِهِ) الدنيا أو في النعم التي قد عاينها ولم يشكر ربها (أَعْمى) أي أعمى القلب عن رؤية قدرة الله تعالى وعن رؤية الحق
أو عن الهداية (فَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ أَعْمى) كذلك عن إثبات الحجة أو هو بمعنى أفعل التفضيل ومن أي
أشد عمى في حال الآخرة من الأعمى ، لأنه غائب عنها لم يرها ، فشك فيها بخلاف ما
عاين من نعم الله أو أشد عمى من كونه أعمى في الدنيا ، أما الدنيا فلفقد النظر
العقلي الموصل إلى المعرفة ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه أبدا لا
بالتوبة ولا بالشفاعة ، فلذلك قال (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [٧٢] من الأعمى ، لأنه في الدنيا يقبل توبته وفي الآخرة
لا يقبل توبته ، قرئ «أعمى» في الموضعين بالإمالة لكون الألف فيها طرفا ، لأنه
بمعنى عام من عمي القلب وبفتحهما على الأصل وبين بين تخفيفا وبامالة الأول وفتح
الثاني عند من جعله أفعل التفضيل ومن لكون ألفه وسطا بتقدير «من» ، لأنه كالجزء
منه فأشبه بألف أعمالكم ، فلا يمال ، لأن الإمالة من لواحق الطرف بخلاف الأول ،
فانه لم يتعلق به شيء فيكون ألفه في الطرف .
(وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ
وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣))
(وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ) نزل حين طلب المشركون ، وهم ثقيف من رسول الله عليهالسلام أن يطرد الفقراء عنه ، وأطعموه في إسلامهم وأن يستلم
آلهتهم وأن يجعل آية رحمة مكان آية عذاب ، فمال إلى بعض ذلك بخطور قلب لا بعزم منه
، فقال تعالى وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك ويصرفوك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي عن القرآن (لِتَفْتَرِيَ) أي لتخلق (عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي غير القرآن بالتبديل كما طلبوا منك (وَإِذاً) أي ولو اتبعت مرادهم (لَاتَّخَذُوكَ
خَلِيلاً) [٧٣] أي وليا وصفيا وحينئذ خرجت من ولايتي ودخلت في
عداوتي.
(وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤))
(وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ) على الحق بالعصمة والحفظ (لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ) أي لقاربت بأن تميل (إِلَيْهِمْ) أي إلى مرادهم (شَيْئاً قَلِيلاً) [٧٤] وفيه دليل على أن النبي عليهالسلام قد عصم ولم يمل إليهم في شيء ما بالقلب ، وهذا الكلام
تهييج من الله له وفضل تثبيت على الحق وعدم الميل إليهم.
__________________