وذهب إلى الأول ـ أعني تفسير ضمير (منكم) بالقرابة أو العشيرة ، وتفسير من (غيركم) بالأجانب ـ الزهري والحسن وعكرمة.
وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء ، إلى أن الآية منسوخة! واحتجوا بقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة : ٢٨٢] ، وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول.
وخالفهم الجمهور فقالوا : الآية محكمة ؛ وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ.
وأما قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ، وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فهما عامّان في الأشخاص والأزمان والأحوال ، وهذه الآية خاصة بحال الضرب في الأرض ، وبالوصية ، وبحالة عدم الشهود المسلمين ؛ ولا تعارض بين عام وخاص.
(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : فاعل فعل محذوف يفسره (ضَرَبْتُمْ) ، أو مبتدأ وما بعده خبره. والأول مذهب الجمهور من النحاة ، والثاني مذهب الأخفش والكوفيين.
والضرب في الأرض : هو السفر.
(فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) : معطوف على ما قبله ، وجوابه محذوف ، أي إن ضربتم في الأرض ، فنزل بكم الموت ، وأردتم الوصية ، ولم تجدوا شهودا عليها مسلمين ، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم ، وبما تركتم ، فارتابوا في أمرهم ، أو ادّعوا عليهما خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما.
ويجوز أن يكون استئنافا لجواب سؤال مقدر ، كأنهم قالوا : فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال :
(تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) : إن ارتبتم في شهادتهما. وخص بعد الصلاة ، أي صلاة العصر ـ قاله الأكثر ـ لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجرا كما في الحديث الصحيح (١) ، وقيل : لكونه وقت اجتماع الناس ، وقعود الحكام للحكومة ، وقيل : صلاة الظهر ، وقيل : أي صلاة كانت.
قال أبو علي الفارسي : يحبسونهما صفة لآخران ، واعترض بين الصفة والموصوف
__________________
(١) حديث صحيح : رواه البخاري (٥ / ٤٣) ، (١٣ / ٤٢٣ ، ٤٢٤) ، ومسلم (٢ / ١١٦ ، ١١٧).