والحجج فهو في العقول أحسن من الذي لا برهان عليه ، وكذلك كل عمل يستحق صاحبه عليه الثواب فهو في العقول مستحسن ، وما يستحق صاحبه عليه العقاب فهو في العقول مستقبح ؛ فلم يستويا.
وأما الوجه الثاني : لا يستوي جزاء أهل النار [و] جزاء أهل الجنة ؛ إذ في الجنة النعيم الدائم ، وفي النار الشدة والنقمة الدائمة ؛ فلم يستويا ، يذكرهم الله ـ تعالى ـ هذا ؛ لينتهوا عن غفلتهم ، ويعملوا لله ـ تعالى ـ حتى يستوجبوا بها الثواب في الآخرة.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ...) الآية.
اختلف الناس في تأويل هذه الآية : [قال بعضهم : هي] على التمثيل ، وهي على التنبيه والتذكير ، وذهبوا في ذلك إلى أن العرب إذا استقبلهم أمر ، وأرادوا أن يصفوه بالعظم والشدة كانوا يضربون الأمثال بما يعظم ذلك عندهم وصفه ـ لم يكن يريدون به الحقيقة في ذلك ، وهو كقولهم عند شدة الأمر : أظلم علي ما بين السماء والأرض ، وكقولهم : ضاقت علي الأرض برحبها ، وكما وصف الله ـ تعالى ـ من أمر لوط ـ عليهالسلام ـ : (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) [هود : ٧٧]. فهذا القول من العرب إنما كان على التمثيل فيما يريدون أن يصفوا الشيء بغايته لا على الحقيقة ؛ لأنه معلوم أن الدنيا عليه كما كانت لم تتغير ، وكذلك لم يظلم عليه ذلك ، لكنهم تكلموا على التمثيل من شدة ما نزل بهم من الأمر ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ...) ، يقول : لو كانت هذه الحجج أنزلت على جبل مع صلابته وشدته ، لخضع لله ـ تعالى ـ وانصدع ؛ من خشيته على وجه التمثيل ، لكن قلوب هؤلاء أقسى منه ؛ حيث لم تخضع ولم تخشع ، وهو كقوله : (كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] ؛ إذ الحجارة قد تكون فيها منافع : نحو خروج الماء وغيره ، فأما قلوب هؤلاء الكفرة فليس فيها شيء من المنافع ، بل هي قاسية لا تخشع ولا تتصدع ، وعلى ذلك حملوا تأويل قوله ـ تعالى ـ : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم : ٩٠] على التمثيل ، ليس على حقيقة ذلك.
وقال قائلون (١) : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) : إنه حقيقة ذلك الفعل منه : وهو الانصداع والخشوع ، وكذلك تأويل قوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم : ٩٠] ، فمعناه : لو كان نزول هذا القرآن وما فيه من الأحكام والأمانات التي أوجب على البشر
__________________
(١) قاله قتادة أخرجه الطبري في تفسيره (٣٣٩١٣).