وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، أي : خلق فعل النسيان والترك فيهم : أضاف اختيار النسيان إليهم ، ثم أضاف الإنساء إلى نفسه وأثبت فعله فيه ، وليس هذا على أن تقدم منهم فعل النسيان ، ثم هو أنساهم بعد ذلك ؛ لكن على أن خلق ذلك فيهم وقتما اختاروا ذلك الفعل ، وهو كقولهم : هداه الله ـ تعالى ـ فاهتدى ، واهتدى فهداه الله ؛ فذلك كله في وقت واحد ؛ فكذلك هذا في الخذلان والنسيان : لما اختار هو فعل النسيان خلق الله ـ تعالى ـ ذلك النسيان فيه ، كما خلق الهداية والكفر باختياره ، ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقدم بعض على بعض.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) كقوله : (نَسُوا اللهَ) ؛ إذ قوله ـ تعالى ـ هذا داخل في قوله : (نَسُوا اللهَ) ؛ إذ العمل لله هو العمل لأنفسهم ، والعمل لأنفسهم هو العمل للذي أريد به وجه الله ؛ فلذلك قلنا بأن المراد منهما ما في الآخرة.
ويحتمل وجها آخر ، وهو أنهم لما تركوا طاعة الله فخذلهم الله ـ تعالى ـ بتركهم أمر الله تركهم أنفسهم لهم [فلم يهتدوا](١) ثمّ للخيرات والطاعات ، وهذا من أشد العقوبات.
ويحتمل أن يكون معناه : أي : يجازيهم في الآخرة جزاء ما عملوا بأن تركهم في الآخرة في العذاب الدائم ؛ فيكون ذلك جزاء لهم بما عملوا في الدنيا وبما تركوا من الإيمان بالله تعالى ، وهذان التأويلان يرجعان إلى ما ذكر من الخذلان فيما فعلوا ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
فالفسق هو الخروج عن أمر الله تعالى (٢).
وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ).
أي : الناجون ، والفوز : هو الظفر بالحاجة ، ثم قوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) يحتمل وجهين :
أحدهما : ألا يستووا في الدنيا ، أو لا يستووا في الآخرة ، فإن كان على الأول فمعناه : لا يستوي عمل أهل الجنة في الدنيا في العقول [و] عمل أهل النار ، إذ عمل أهل النار بالذي يستقبحه العقول ، وأما أفعال أهل الجنة الداعية إليها بالتي يستحسنها العقول ؛ لأن عمل هؤلاء بالذي ظهر بالبراهين والحجج ، وليس لعمل أولئك براهين وما أقيم بالبراهين
__________________
(١) ما بين المعقوفين غير واضح في أ.
(٢) ذكره الطبري في تفسيره (١٢ / ٥٠).