على الجبل ، وكان هو بحيث يملك قبول ذلك باختياره لقيام شرائطه ـ لكان هو يفزع ويخضع ويتصدع من خشية الله ـ تعالى ـ وكان لا يقبل ؛ مخافة ألا يمكنه أداء ما لزمه بنزوله ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ...) الآية [الأحزاب : ٧٢] : فيقول : معناه : لو أنزلنا هذه الأمانات التي في هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا ؛ إذ الأمانات التي في هذا القرآن مما قد يلزم المرء لا يمكن أداؤها كلها ؛ لأن الأمانات مما يكثر عدها ، فضلا من أن يمكن أداؤها ؛ فعلى هذا التأويل يخرج على حقيقة التصدع أن لو أنزل عليه ـ مع عظمه وصلابته ـ لانصدع ؛ فعلى هذا تنبيه للخلق وتذكير لهم.
وقال بعضهم : إن في هذه الآية تذكير الرسول صلىاللهعليهوسلم منته عليه وعلى جميع الرسل : لو لا فضل الله ومنته على الرسل ، لكان لا يطيق أحد من الرسل حمل ما في الكتب ، ولا أداء ما افترض مدّكر ؛ فيسر عليهم وثقل العمل بما فيه ، فيقولون كذلك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) : لثقل ما فيه ، لكنه [نزله] عليك ، ويسر ذكره [و] وفقك تبليغ ما فيه إلى أهله.
وقال قائلون : إن الله ـ تعالى ـ لما أراد أن ينزل التوراة على موسى ـ عليهالسلام ـ وكانت في لوح من زبرجدة حمراء ـ أمر الملائكة أن يحملوها فلم يطيقوا حملها ، ثم أمرهم أن يحملوا كل حرف منها ، فلم يطيقوا ذلك ؛ فخفف الله ـ تعالى ـ على موسى ـ عليهالسلام ـ حتى حمل ذلك ، فكذلك ذكر ذلك في عيسى وداود ـ عليهما الصلاة والسلام ـ ثم خفف ذلك على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فكأنه يقول لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ ...) كذا ، لكنه خفف ذلك عليك كما خفف على الأنبياء من قبلك ، وإليه يذهب الكلبي ، لكن إن صح هذا الخبر فإن ذلك الثقل لم يكن في تلك الكتابة التي في الألواح ، لكن ذلك فيما يلزمهم من العمل بذلك من أداء الأمانات وغيرها ؛ لأنه ـ تعالى ـ أخبر أنه لو كان أنزل هذا القرآن على جبل (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، وقال في موضع آخر : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...) الآية [الأحزاب : ٧٢].
ثم كانت تلك الألواح قد احتملها الأرض ، وأمكن لموسى ـ عليهالسلام ـ حملها ؛ فكذلك هذا القرآن كله والتوراة والإنجيل والزبور مما قد يحتمل حقيقة ، ويمكن كتابته في قليل الألواح ، ثبت أن المراد من ذكره ليس هو الحروف ، إنما (١) كان على ما فيه من الأمر والنهي وأداء الأمانات واتقاء الله حق تقاته ، لا على نفس تلك الألواح ، وهذا الذي ذكرنا
__________________
(١) في أ : إن.