أحدهما : أنهم لا يفقهون أن البلايا التي في الدنيا ونعيمها تذكير لبلايا الآخرة ونعيمها ، وكانوا يرون أنها جعلت لأنفسها ، وإذا كان هذا وهمهم وحسبانهم لم يرهبوا من الله تعالى.
والثاني : أنهم قوم لا يفقهون من الوعد والوعيد ؛ بل كانت رهبتهم ممن كانوا يأملون منهم المنافع ويحذرون مضارهم ، فلا يرهبون من الله تعالى.
ولقائل أن يقول : إنه لا أحد من أهل الإسلام إلا ورهبته من الناس أشد من رهبة الله ـ تعالى ـ لأنك ترى الرجل يمتنع عن الزلة عند اطلاع الناس عليه ما لا يمتنع عن كثير من الزلات فيما بينه وبين الله تعالى.
والجواب عن هذا وجهان :
أحدهما : أنه ليس بإزاء الخوف من الإنسان رجاء يرجوه ، وبإزاء رهبته من الله ـ تعالى ـ رجاء يرجوه من رحمته وفضله وإحسانه ؛ فيجوز أن يكون الرجاء من رحمته وفضله يغلب عليه ؛ فيقترف الذنوب ويرتكبها.
والوجه الثاني : إذا كان فيما يرتكبه من الذنب شرك فليس يهابهم ، وإنما خوفه من قوم فيهم سمعة الصلاح وأمارة النصر لدين الله ـ تعالى ـ ليس من نفس المخلوقين ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ).
قوله : (جَمِيعاً) ، أي : لا يقاتلكم أهل النفاق وأهل الكتاب جميعا معا ، وإنهم ليسوا بفاعلين ما وعدوا لأهل الكتاب من النصر والقتال.
واحتمل أن يكون استثناؤه من الوعد الذي وعدوا لأهل الكتاب ، فإن كان من القتال فهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم لا يقاتلون إلا أن يكونوا في قرى أو حصون أو من وراء جدر ، لا يعلم بهم أهل الإسلام ، والله أعلم.
وإن كان من الوجه الثاني فهو يحتمل وجهين أيضا.
أحدهما : أنهم لا يوفون ما وعدوا من النصر في القتال لأهل الكتاب ، ولكنهم يلتجئون إلى قرى محصنة ؛ ألا ترى إلى ما أخبر الله ـ تعالى ـ منهم في ناحية المسلمين : (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) [الأحزاب : ٢٠] ، فأخبر أنهم قد أظهروا الموالاة للمسلمين كما أظهروا لأهل الكتاب إلى أن جاء القتال التجئوا إلى مكان يستمعون من أخبارهم ؛ فعلى ذلك النحو يجوز أن يكون في أهل الكتاب.
والوجه الثاني : أنهم لا يقاتلون ، ولكنهم يدخلون في قرى محصنة يتربصون لمن يكون