وذلك أنه كان من عادة العرب المعونة والنصرة لمن قاربهم في النسب أو القبيلة ، وإن كان ظالما ، ثم إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم من بين أظهرهم من قريش ، فأظهروا معه من العداوة ما أظهروا حتى هموا بقتله ، وجعل محمدا صلىاللهعليهوسلم حين أرسله حجة يظهر لليهود والنصارى وجميع أهل [الكتاب] ما ذكر في كتابهم من نعته وصفته ، فقابلوه بذلك ما قابلوا من سوء الصنيع وإظهار العداوة ، وكان هذا كله ـ والله أعلم ـ حجة وعلامة ، يعلم بها أن رسالته ـ عليهالسلام ـ لم تظهر بمعاونة أحد ؛ بل بنصر الله وفضله وتأييده ، والله المستعان.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ).
يحتمل أن يكون رهبة هؤلاء في صدورهم على التحقيق ، ويجوز أن تكون على التمثيل : فأما وجه التمثيل فهو ما قال : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [التوبة : ٥٦] ؛ فأخبر أنهم يعتذرون إليهم بالحلف ؛ فيجوز أن يكون معاملتهم هذه ـ التمثيل ـ معاملة من يرهبهم ؛ فسمى ذلك : رهبة في قلوبهم ، وهذا نحو قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) [الهمزة : ٢ ، ٣] ، يعني : جمع ماله جمع من يحسب أن ماله أخلده ؛ فكذلك الأول.
ويجوز أن يكون على التحقيق ؛ ولذلك أوجه من التأويل :
أحدها : أنهم كانوا يظهرون الموالاة لكل فريق ، وكان عندهم أن الله ـ تعالى ـ ولي أحد الفريقين لا محالة ، وإذا نجا أحد الفريقين نجوا هم أيضا ؛ فكأنهم على هذا التأويل كانوا يرهبون الخلق جميعا ، لا أن يختص به المؤمنون ، وكانوا لا يرهبون الله ؛ لأنهم أمنوا ناحيته من الوجه الذي وصفنا.
ويجوز أن يكون رهبتهم من المؤمنين خاصة ، وذلك أن أهل النفاق إنما كانوا من أحد الصنفين : أما إذا كانوا دهرية فنافقوا إذا كانوا أهل كتاب ، وإن كانوا أهل كتاب فنافقوا (١) ، فإن كانوا دهرية فكانوا لا يرهبون الله ـ تعالى ـ لما كانوا غير مقرين بالصانع ، وإن كانوا أهل كتاب ، فإنهم قد أمنوا ـ أيضا ـ لما كانوا يصفون من قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ، وإذا سقطت الرهبة من كلا الجانبين من الله ـ تعالى ـ حصلت الرهبة من المؤمنين خاصة ، والله أعلم.
ويجوز أن يكون تفسير قوله ـ تعالى ـ : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ، وذلك يحتمل وجهين :
__________________
(١) كذا في أ.