ثم إنه يجوز أن يكون ذلك الحق ، هو ما وظف من الخراج على أهل القرية إذا فتحت وهو ما روي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لعلي وابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ حين فتح سواد الكوفة : أني أستشيركم في أمر ، قد أغناني الله ـ تعالى ـ عن مشورتكم حين تلوت هذه الآية ، ثم تلا : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) ، ثم قال : لهؤلاء خاصة ، وتلا قوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، ثم قال : ليس لهؤلاء خاصة ، وتلا قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ...)
وروي أن بلالا قال له : اقسم بيننا كما قسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيبر بين أهل العسكر ، وقال : اللهم اكفني بلالا وأهله. ثم قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : «لو قسمتها بينكم لتركت آخر عصابة في الإسلام لم تصب من هذا ، وأخبر الله بقوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أنهم شركاء هؤلاء ؛ فجائز أن يكون عمر ـ رضي الله عنه ـ حين تلا هذه الآيات تذكر خبرا أخبر به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعلم أن الحق الذي أوجب الله ـ تعالى ـ لهؤلاء ذلك.
أو يجوز أن يكون الله ـ تعالى ـ بلطفه ألهمه وعليا وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ لأنه روي أنهما أشارا عليه بذلك ؛ ولذلك قال أصحابنا : إن الإمام إذا افتتح قرية من قرى أهل الحرب فهو فيها بالخيار : إن شاء قسمها بين أهلها ووظف عليهم الخراج ، وإن شاء قسمها بين أهل العسكر. وإنما كان كذلك ؛ لأن المقصود من المقاتلة أحد معنيين : إما لتوسيع أمكنة الإسلام أن تضيق ، أو يضيق المكان بهم ؛ ليستسلموا لدين الله ، وينقادوا لأمره ، وينظروا في حججه ، وليست مقاتلتهم عقوبة كفرهم ؛ بل لما وصفنا من المعنى ، وهذا المعنى قد يستفاد إذا وظف عليهم الخراج ؛ فلذلك كان للإمام الخيار ، والله أعلم.
ولو فهم بلال ـ رضي الله عنه ـ المعنى الذي لأجله قسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيبر بينهم لم يقس سواد الكوفة عليه.
والمعنى من قسمته ـ عليهالسلام ـ خيبر بينهم ، عندنا ـ والله أعلم ـ : هو أن المسلمين لما صدوا عن البيت بالحديبية بشرهم الله ـ تعالى ـ بفتح قريب ؛ عوضا عما نالهم فيما أصابهم ، وأما سواد الكوفة فلم يكن فيها شيء من هذا المعنى ؛ فلم يجز أن يكون أمره مقيسا عليه ، والله أعلم.
وقوله : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) يحتمل أن يكون المراد منه المجاهدين المقاطعين لأسباب عيشهم من الأموال والديار ، أي : لهم هذا الحق الذي سبق وصفه (١).
__________________
(١) قاله قتادة كما في الدر المنثور (٦ / ٢٨٨).