ثم اختلف في سبب تلك النجوى :
قال بعضهم (١) : إنه كان بين اليهود وبين النبي صلىاللهعليهوسلم موادعة ، فإذا [وجد] رجل من المسلمين وحده يتناجون بقتله بينهم ، [أو] يظن المسلم أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره ؛ فيترك الطريق من المخافة ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنهاهم عن النجوى ، فلم ينتهوا ، وعادوا إلى النجوى ؛ فنزل ما ذكر.
ومنهم من قال : إن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم كانوا إذا خرجوا من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم قام أناس من اليهود وأناس من المنافقين يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون نحو واحد منهم ، فإذا رآهم ينظرون نحوه ، قال : ما أظن هؤلاء إلا قد بلغهم خبر أقربائي الذين بعثهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم في السرايا من قتل أو موت ؛ فيقع في قلبه من ذلك ما يحزنه ، فلا يزال كذلك حتى يقدم حميمه من تلك السرية.
لكن الأولى عندنا السكوت عن ذكر هذا وأمثاله ؛ لأنه خرج مخرج الاحتجاج وجعله آية عليهم ؛ فيجوز أن يكون على خلاف ما ذكر ؛ فيوجب الكذب في الخبر ؛ فالإمساك عنه أحق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ).
ذكر أنهم كانوا إذا أتوا رسول الله يقولون : السام عليك يا محمد ؛ فيجيبهم النبي صلىاللهعليهوسلم ويرد عليهم ويقول : عليكم (٢). ففيه دلالة رسالته ؛ لأنهم حيوه شرّا منه ، فأطلعه الله ـ تعالى ـ على ما أسروا ، وكذلك ما قال : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ) : هلا يعذبنا الله بما نقول في السر فيه دلالة الرسالة ؛ لأنه معلوم أنهم قالوا ذلك سرا في أنفسهم ، فأطلع الله ـ تعالى ـ رسوله على ما في أنفسهم ، ففيه أنه بالله ـ تعالى ـ عرف [ذلك].
ثم قوله ـ عزوجل ـ خبرا عنهم : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ).
جائز أن يكون من رسول الله صلىاللهعليهوسلم لهم وعيد بالتعذيب ؛ لأجل التناجي الذي كان فلما تأخر ذلك عنهم قالوا عند ذلك : إنه لو كان رسولا على ما يقوله لعذبنا على ما قال ووعد ، لكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إن كان وعد لهم العذاب لم يبين متى يعذبون ، فعذابهم ما ذكر حيث قال : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، والله أعلم.
__________________
(١) قاله مقاتل بن حيان ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٦ / ٢٦٩).
(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٤٤) ، في كتاب الاستئذان : باب كيف الرد على أهل المدينة بالسلام (٦٢٥٦) ، ومسلم (٤ / ١٧٠٦) ، في كتاب السلام : باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (١٠ / ٢١٦٥).