كونها وقبل ظهورها كما يشتد على الخلق ويصعب عليهم ، والله أعلم.
وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأن اسم المصائب يقع على ما للخلق فيه صنع كما يقع على ما لا صنع لهم فيه ، ثم أضاف الله تعالى خلقها إلى نفسه مطلقا بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) ، دل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ ألا ترى أن الله تعالى سمى ما يصيب بأيدي الخلق : مصيبة ، فقال : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) [التوبة : ٥٢] ، وقال في آية أخرى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ...) [التوبة : ١٤] الآية.
قالت المعتزلة : يقال : أصابنا كذا فيما لا صنع للخلق في ذلك ، فأما ما [فيه] صنع للخلق يقال : «أصبنا».
لكن هذا فاسد ؛ فإنه جائز أن يقال في كل ما أصابك : أصبته ، وما أصبته أصابك ؛ لأنه إذا أصابك شيء فقد أصبته ، وذلك جائز في اللغة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ، جعل الله تعالى في طباع الخلق الحزن والأسى على ما فاتهم من النعمة وما ينزل بهم من البلاء والشدة ، والسعة والفرح والسرور بما ينالون من النعمة ، هذا هو المنشأ والمجعول في طباعهم.
ثم يخرج تأويل الآية بالنهي عن الأسى والحزن بفوت النعمة ، وعن الفرح والسرور عند إصابتها على وجوه : أحدها : يقول ـ والله أعلم ـ لكيلا تستكثروا من الأسى والحزن على ما فاتكم ، فيحملكم ذلك على الشكوى من الله تعالى ، (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي : لا تستكثروا [من] الفرح والسرور حتى يحملكم ذلك على الطغيان والعدوان ، كما ذكر في الخبر : «أعوذ بالله من الفقر المنسي والغناء المطغي» (١) ، والله أعلم.
والثاني : يقول : لكيلا يشغلكم الأسى والحزن على ما فاتكم من النعمة حتى يفوتكم أضعاف ذلك ، وهو ما وعد لهم من الثواب إذا صبروا ؛ كقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] ، ثم قال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة : ١٥٧] ، يقول : لا يشغلكم الجزع وترك الصبر عمّا وعد لكم من الصلاة والرحمة والاهتداء ؛ ولذلك الجزع في المصيبة أعظم المصيبتين ، ويقول ـ أيضا ـ : ولا يشغلكم شدة الفرح والسرور بما
__________________
(١) أخرجه الطبراني عن ابن مسعود موقوفا بنحوه ، وفي إسناده انقطاع وراو اختلط ، وروي من حديث أنس بن مالك وفيه ضعف انظر : مجمع الزوائد للهيثمي (١٠ / ١٤٧).