بتدميره ، ولم تؤمر بتدمير مساكنهم ، فبقيت ، والتأويل الثاني على التأويل الثاني في قوله : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) عند من عاينها ونظر إليها ؛ لشدتها وقوتها ، فتدمر مساكنهم ـ أيضا ـ فلا ترى إلا آثارها ، لكن سماها : مساكن باسم ما قد كان ، وأنه أمر مستعمل في عرف لسان اللغة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) كأن المجرم هو الذي يديم اكتساب الجرم والإثم.
وقال بعضهم : هو الوثاب في الجرم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ ...) الآية ، [اختلف] فيه :
قال بعضهم (١) : (إِنْ) هاهنا في موضع «لم» كأنه يقول : ولقد مكناهم فيما لم نمكن لكم من القوة ، والشدة ، والعقل ، والبصيرة ، وغير ذلك ، وذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : قد مكنا عادا فيما ذكرنا ما لم نمكن لكم يأهل مكة في ذلك ؛ ثم إذا أتاهم عذاب الله بتكذيبهم الرسل لم يملكوا دفع عذابه ، فأنتم حيث لم نمكن لكم ذلك أحرى ألا تملكوا دفع عذابه إذا نزل بكم بتكذيبكم الرسول ، عليه الصلاة والسلام.
قال بعضهم : إن حرف (إِنْ) صلة زائدة ؛ فيكون تقدير الآية كأنه يقول : ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه مما ذكر من السمع ، والبصر ، والفؤاد ، ثم لم يملكوا دفع العذاب عن أنفسهم ، فأنتم لا تملكون ـ أيضا ـ دفعه عن أنفسكم ، وكان لهم ما لكم مما ذكر من السمع ، والبصر ، والفؤاد.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) على التأويل الأول ؛ حيث ذكرنا أنهم مكنوا ما لم يمكن هؤلاء ، يكون ما ذكر من السمع والبصر والفؤاد لا يراد به أعيانها حقيقة ، لكن السمع يكون كناية عن العقل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) [يونس : ٤٢] ذكر السمع ، ثم فسر به العقل ، ويكون قوله : (وَأَبْصاراً) أريد به : البصائر ، فالبصر يذكر ويراد به البصيرة ؛ إذ قد وصفهم الله ـ تعالى ـ بذلك بقوله : (وَعاداً وَثَمُودَ ...) إلى قوله : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) [العنكبوت : ٣٨] ويكون قوله : (وَأَفْئِدَةً) كناية عن القوى ؛ فالفؤاد يكنى به عن القوة ؛ يخبر ـ تعالى ـ أنهم مكنوا من العقل والبصيرة والقوة ما لم تمكنوا
__________________
(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٣١٣٠٤) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ١٥).