بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، وإنه (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ، وإنه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، قد ظهر كذبهم بهذا فيما بينهم ؛ لأنهم متى رأوه اختلف إلى واحد منهم يعلمه ذلك؟! أو متى رأوه كتب شيئا قط أو يحسن الكتابة قط؟! وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)؟!
فإذا عرف تلك الأنباء والأحاديث التي كانت من قبل ـ ولا شك أنها لم تكن بلسانه ، وإنما كانت بلسان أولئك ـ دل إخباره عما في كتبهم بلسانه أنما عرف ذلك بالله تعالى (١).
وقوله : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) قال أهل التأويل : غدوّا وعشيّا ، فلو كان على ذلك لكان يحضرونه في البكرة والعشيّ ، فيسمعون ويشاهدون ما يملى عليه ؛ إذ الوقت وقت الحضور ، ولكن ـ عندنا ـ كأنهم أرادوا بالبكرة والعشيّ : أول الليل وآخره ، الأوقات التي هي ليست بأوقات الحضور والجلوس ، يقولون : يأتونه سرّا فتملى عليه ويعلمه ، فلو كان ذلك أيضا لكانوا يراقبونه ويحافظونه سرّا ؛ ليعرفوا ذلك ويشاهدوه ، فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم كانوا يعرفون صدقه ، وأنهم كذبة في زعمهم ، لكنهم كابروه وعاندوه في ذلك.
ثم أخبر أنه إنما أنزل عليه الذي يعلم السر في السموات والأرض ؛ حيث قال : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليس بمختلق منه ولا مفترى ، ثم قوله : (يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يعلم الأعمال الخفية والسرية من أهل السماوات والأرض ، أي : يعلم الكوائن التي في السموات والأرض وخفياتها.
وقال بعضهم : قوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي : قل لهم يا محمد : أنزله ـ أي : هذا القرآن ـ الذي يعلم السر ؛ وذلك أنهم قالوا بمكة سرّا : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [المؤمنون : ٢٤] فإنه بشر مثلكم ، بل هو ساحر (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣] ، ففي ذلك دلالة إثبات رسالته ؛ لأنهم قالوا سرّا فيما بينهم ثم أخبرهم بذلك ، دل أنه بالله عرف ذلك.
وقوله : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) في تأخير العذاب عنهم ، (رَحِيماً) حين لا يعجل عليهم بالعقوبة إذا تابوا ورجعوا عن التكذيب إلى التصديق على ما ذكرنا. وقوله : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) في تأخير العذاب ، يحتمل قوله : (غَفُوراً رَحِيماً) إذا تابوا عن ذلك وآمنوا به ورجعوا إلى الحق ، أو غفور رحيم لا يعجل بالعقوبة أي : برحمته وفضله لا يعجل بعقوبتهم ؛ لعلهم يتوبون.
__________________
(١) ثبت في الحاشية : بلسان نفسه من غير أن يعرفوا له معلما ، ولا كان له معرفة بلسانهم ولا معرفة بالكتابة والقراءة عن الكتاب ، عرف أنهم عرفوا أنه علم ذلك بالله تعالى. شرح.