فأمّا على السؤال والدعاء فهو ـ والله أعلم ـ لأنهم سئموا وملوا ؛ لكثرة ما أنعم الله عليهم ، ورفع عنهم المؤن ، وطال مقامهم فيها ، سألوا ربهم أن يحول ذلك عنهم ؛ سفها منهم وجهلا ، وكان كقوم موسى : حين أنزل عليهم المن والسلوى ، ورفع عنهم المؤنة سئموا وملوا في ذلك ، وقالوا (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) [البقرة : ٦١] ، وما ذكروا ، فعلى ذلك هؤلاء.
ومن قرأ (باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ؛ على الشكاية ـ شكا إلى ربّه لما ذهب عنهم السعة والخصب ، وأصابهم الجهد والمؤنة.
وأمّا قوله : (باعِدْ) على الخبر ؛ فكأنه كانت فيهم ، وذلك كله منهم : [فيهم] من سأل تحويله ، وفيهم من شكا إذا زال ذلك وتحول ، وفيهم من أخبر بزواله.
وعلى ذلك يخرج قول موسى لفرعون ، حيث قال : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢] لا أنه كان أحدهما ؛ فعلى ذلك الأول وما يشبه ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ).
أي : أهلكناهم كل إهلاك ؛ حتى صاروا عظة وعبرة لمن بعدهم.
وقال : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) للناس ؛ على حقيقة الحديث ، يتحدثون بأمرهم وشأنهم.
(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).
أي : فرقناهم كل تفريق ، أي : في كل وجه التفريق ؛ حتى وقع بعضهم بمكة ، وبعضهم بالمدينة ، وبعضهم بالشام ، وبعضهم بالبحرين وعمان ، ونحوه والله أعلم.
وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
يحتمل أن يكون الصبار والشكور هو المؤمن ؛ كأنه قال : إن في ذلك لعبرا وعظات لكل مؤمن.
أو آيات لكل صبار على طاعة الله وأمره ، شكور لنعمه.
أو آيات لكل صبار على البلايا والمحارم ، شكور لنعم الله.
ثم يخرج على وجهين :
أحدهما : في الاعتقاد له.
والثاني : في المعاملة.
يعتقد الصبر لربه على جميع أوامره ونواهيه ، والشكر له على جميع نعمائه ،