وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) : قوله : (تَبارَكَ) قد ذكرنا أن بعضهم يقولون : هو من البركة.
وقال بعضهم : من التعالي.
(جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) : هو ما ذكرنا أنه خرج جوابا لقولهم : (وَمَا الرَّحْمنُ) ؛ وكذلك قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي : جعل أحدهما خلف الآخر ، إذا ذهب هذا جاء هذا.
(لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي : يذكر الليل والنهار لمن أراد أن يتذكر لمواعظه أو يشكر لنعمه ؛ لأنهما يذكران قدرته وسلطانه ، حيث يقهران الجبابرة والفراعنة ويغلبانهم حيث يظلانهم ويأتيانهم شاءوا ، أو كرهوا لا يقدرون دفعهما عن أنفسهم.
وفيهما دلالة الإحياء والبعث بعد الفناء والهلاك ؛ حيث ذهب بهذا أتى بآخر بعد أن لم يبق من أثره شيء ، فمن قدر على هذا قدر على البعث والإحياء بعد الموت وذهاب أثره.
ويذكران أيضا نعمه وآلاءه ؛ لأنه جعل النهار متقلبا لمعاشهم ومطلبا لرزقهم ، وما به قوام أنفسهم ، وجعل الليل مستراحا لأبدانهم وسكونهم لا قوام للأبدان بأحد دون الآخر ؛ ألا ترى أنه كيف ذكر نعمه فيهما ؛ حيث قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الآية [القصص : ٧١] ، وقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) الآية [القصص : ٧٢] ، يذكرهم عظيم نعمه فيهما أعني في الليل والنهار ؛ ليتأدى بذلك شكره ؛ فعلى ذلك هذا ما ذكرنا قوله : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) النعمة التي جعل لهم.
قال بعضهم : قوله : (خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي يكون كل واحد منهما خلفا للآخر فيما يفوت فيه من التذكر والتشكر ، أي : ما فات في أحدهما من التذكر والتشكر يقضى في الآخر.
وقال الحسن قريبا مما ذكرنا ، وقال : من فاته شيء بالليل أدركه بالنهار ، ومن فاته شيء بالنهار أدركه بالليل.
وعلى مثل ذلك روي عن عمر : أن رجلا قال له : يا أمير المؤمنين ، إني لم أدرك الصلاة الليلة ، فقال عمر : «أدرك ما فاتك من ليلك في نهارك ، وما فاتك من نهارك في ليلك» ، ثم قرأ : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً).
وقال بعضهم (خِلْفَةً) من الاختلاف ، أي : يخالف أحدهما الآخر.
ثم يحتمل الاختلاف وجهين :