والثالث : يذكرهم ما أتاهم من الغوث عند إياسهم من أنفسهم وشرفهم على الهلاك وخروج أنفسهم من أيديهم ؛ لأن العدو قد أحاطوا بهم ؛ حيث قال : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ، وبلغ أمرهم وحالهم ما ذكر ، حيث قال : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ...) الآية.
أو أن يذكر لما كان منهم من العهد والميثاق ألا يولّوا الأدبار ، ولا يهربوا كقوله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ...) الآية [الأحزاب : ١٥] : يذكرهم عظيم نعمه التي كانت عليهم في النصر لهم على عدوّهم والدفع عنهم ، وحالهم ما ذكر في الآية ، وذلك كان يوم الخندق تحزبوا المؤمنين في ثلاثة أمكنة يقاتلونهم من كل وجه شهرا ، فبعث الله عليهم بالليل ريحا باردة ، وبعث الملائكة فغلبتهم ، والله أعلم.
وقوله : (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً).
يذكر أنه لا عن غفلة وسهو ترككم هنالك حتى أحاط بكم العدو ؛ ولكن أراد أن يمتحنكم محنة عظيمة.
أو يقول : إنه بصير عليم فيجزيكم جزاء عملكم وصبركم على ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ).
قال بعضهم : من فوق الوادي ومن أسفل منه.
وقيل : أحاطوا بهم من النواحي جميعا.
وجائز أن يكون ذلك كناية عن الخوف ، أي : أحاطوا بهم حتى خافوا على أنفسهم الهلاك ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ).
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : هذا وصف المنافقين (زاغَتِ الْأَبْصارُ) ، أي : شخصت (١) ، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) ؛ لشدة خوفهم ، كقوله : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [الأحزاب : ١٩] ، وأمثال هذا قد وصفهم في غير آي من القرآن ما وصف هاهنا ، وهذا يشبه أن يكون.
وقال بعضهم : هذا وصف حال المؤمنين : شخصت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ؛ لمّا اشتد بهم الخوف ؛ لما أحاطوا بهم من فوق ومن أسفل.
ثم جائز أن يكون ذلك على التمثيل ، أي : كادت أن تكون هكذا.
وجائز أن يكون على التحقيق ، وهي أن تزول عن أمكنتها ، وبلغت ما ذكر ، والله
__________________
(١) وقاله قتادة أيضا ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٧١) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٧).