وجائز أن تسمّى مكة : معادا ؛ لما يعود الناس إليها مرة بعد مرة ، كما تسمى : مثابة ؛ لما يثوب الناس إليها مرة بعد مرة.
لكن من يقول بأن المعاد هو مكة يقول : إن النبي صلىاللهعليهوسلم لما أمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر إليها اشتاق إلى بلده ومولده ومولد آبائه ، فنزل جبريل عليه بهذه الآية بشارة في العود إليها ظاهرا عليهم ، قاهرا ، فاتحا له مكة ؛ هذا تأويل من يقول بأن المعاد هو مكة.
وجائز أن يكون على غير هذا ، وهو يخرج على وجهين :
أحدهما : كأنه حزن على الفراق منهم إشفاقا على هلاكهم لإخراجهم الرسول من بين أظهرهم ؛ لأن الأمم السالفة إذا خرج من بينهم الرسل نزل بهم العذاب ؛ فخاف أنهم لما أخرجوا من بين أظهرهم وأبوا إجابته أن يهلكوا أو يعذبوا ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، فبشر بهذا أن ترد إليها وستعود إليهم ، فيتبعونك ويؤمنون بك ، وهم لا يهلكون إهلاك استئصال وتعذيب كسائر الأمم.
والثاني : يذكر على الامتنان عليه ؛ يقول : إن الذي أنزل عليك القرآن وألقاه عليك بعد ما لم تكن ترجو إلقاءه عليك وإنزاله ، ولكن برحمته ومنته ألقاه إليك وأنزله عليك حيث قال : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ؛ فعلى ذلك يردّك إلى مكة بعد ما لم تكن ترجو ردّك وعودك إليها.
وإن كان المعاد : هو البعث ؛ فهو يخرج على وجهين :
أحدهما : على البشارة ؛ كأنه يقول : إن الذي فرض عليك القرآن يردّك ويبعثك بمن كذبك وبمن صدقك ، فينتقم من مكذبيك جزاء التكذيب ، ويجزي من يصدقك جزاء التصديق.
والثاني : يذكره ويخاطبه ، وإنما يريد به قومه ، أي : سيبعثون وسيعودون إليها ، فيكون كالآيات التي يخاطب بها رسوله والمراد بها : قومه ؛ فهو يخرج على الوعيد لهم ، ألا ترى أنه قال : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ربي أعلم بمن جاء بالهدى فيجزيه جزاء الهدى ، ومن هو في ضلال مبين فيجزيه جزاء ضلاله.
ويخرج ذكر هذا عند دعاء أولئك الكفرة : أنهم على الحق والهدى ، وأن آباءهم كانوا على الحق والهدى ، وأنتم على ضلال ، فيقول : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) نحن أو أنتم؟! فهو على التحاكم إلى الله أن يحكم بينهم ، فيجزي كلا بما جاء به ، والله أعلم.
وقوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فهو يخرج على