يغيب ؛ إذ لو كان هو ممن لا يعلم ذلك من كلام المخلوق لخرج مختلفا متناقضا على ما يكون من كلام المخلوق في تباعد الوقت وطول المدة مختلفا متناقضا.
والثاني : وصل مواعظ القرآن بعضها ببعض ومواعيده بعضها ببعض ، وعداته بعضها ببعض ، وكذلك أوامره ومناهيه ، وإن تفرق نزولها واختلف مواضعها ، يدعوهم به مرة بعد مرة ؛ لعلهم يتذكرون به.
ومنهم من يقول في قوله : (وَقُلْنا لَهُمُ) [النساء : ١٥٤] : القول ، أي : الإنباء وإخبار الأمم الخالية نبأ بعد نبأ وخبرا على أثر خبر ما نزل بمكذبي الرسل منهم من الهلاك والعذاب ، ومصدقي الرسل من النجاة والبقاء في النعم الدائمة ، على إقرار منهم بذلك وعلم أنه كان بهم ذلك ؛ لعلهم يتذكرون ذلك وينزجرون عن تكذيب رسولهم ؛ مخافة أن ينزل بهم بالتكذيب ما نزل بأولئك.
وجائز أن يكون قوله : (وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي : قول التوحيد.
ووجه هذا : أن وصلنا التوحيد حتى جعلنا في كل أمة وكل قوم أهل توحيد لم يخل قوم ولا أمة عنه ؛ كقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] ؛ وكقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ...) [الأعراف : ١٥٩] ونحو ذلك من الآيات ، يدل على أن كل أمة وقرن أهل توحيد ؛ لعلهم يتذكرون أن في آبائهم من قد آمن بالرسل وصدق بهم ، ولا يقولون : إن آباءنا على ما هم عليه ، يشبه أن يكون هذا وصل القول الذي ذكر.
و (وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ).
قال أبو عوسجة والقتبي (١) : أي : أتبعنا بعضه بعضا ؛ فاتصل عندهم.
وقال بعضهم : (٢) (وَصَّلْنا) أي : بينا شيئا فشيئا ؛ حتى صار عندهم ظاهرا.
وقال أبو معاذ : وصلنا في كلام العرب : أتممنا ؛ كصلتك الشيء بالشيء.
وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) ، وقال في آية أخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦].
وقال في آية أخرى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [العنكبوت : ٤٧] ، وقال : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [المائدة : ١٣] وأمثاله.
يذكر في هذه الآيات أن من أهل الكتاب من لم يؤمن ، ويذكر في الأولى على
__________________
(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٣٣).
(٢) قاله سفيان بن عيينة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٤٩٩) ، وعن السدي أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٩).