وقيل : (المباشرة) كناية عن الجماع.
ثم قوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) فيه أدلة من أوجه الآية ، كأنها نزلت فى نازلة بلوا بها ، لا أن كانوا يباشرون نساءهم فى المساجد ؛ لأن المساجد كانت أجل عندهم من أن يجعلوها مكانا لوطء النساء. ولكنه ـ والله أعلم ـ أن الاعتكاف (١) : هو اللبث فى مكان ، يأخذ الحق فى نفسه عند عكوفه فى المسجد وخروجه منه ، فذكر أن العكوف نفسه يحرم الجماع فى الأحوال كلها ، ليس كالصوم الذى يحرم حالا دون حال فى الوقت الذى لم يكونوا فيها ، ليعلموا أن حكم المقام فى المساجد أخذ لهم وليسوا هم
__________________
ـ (٣٠٤٩) ، وقتادة (٣٠٥٠) ، وغيرهم.
وانظر الدر المنثور (١ / ٣٦٣).
(١) الاعتكاف لغة : الافتعال ، من عكف على الشىء ، عكوفا وعكفا من بابى : قعد ، وضرب : إذا لازمه وواظب عليه ، وعكفت الشىء : حبسته. ومنه قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ). وعكفته عن حاجته : منعته. والاعتكاف : حبس النفس عن التصرفات العادية. وشرعا : اللبث فى المسجد على صفة مخصوصة بنية.
والاعتكاف فيه تسليم المعتكف نفسه بالكلية إلى عبادة الله تعالى طلب الزلفى ، وإبعاد النفس من شغل الدنيا التى هى مانعة مما يطلبه العبد من القربى ، وفيه استغراق المعتكف أوقاته فى الصلاة إما حقيقة أو حكما ؛ لأن المقصد الأصلى من شرعية الاعتكاف انتظار الصلاة فى الجماعات ، وتشبيه المعتكف نفسه بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون.
والاعتكاف سنة ، ولا يلزم إلا بالنذر ، لكن اختلف الفقهاء فى مرتبة هذه السنية :
فقال الحنفية : إنه سنة مؤكدة فى العشر الأواخر من رمضان ، ومستحب فيما عدا ذلك.
وفى المشهور عند المالكية : أنه مندوب مؤكد وليس بسنة. وقال ابن عبد البر : إنه سنة فى رمضان ومندوب فى غيره.
وذهب الشافعية إلى أنه سنة مؤكدة ، فى جميع الأوقات ، وفى العشر الأواخر من رمضان آكد ؛ اقتداء برسول الله صلىاللهعليهوسلم وطلبا لليلة القدر.
وقال الحنابلة : إنه سنة فى كل وقت ، وآكده فى رمضان ، وآكده فى العشر الأخير منه.
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة ، لا يجب على الناس فرضا ، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا ، فيجب عليه. ومما يدل على أنه سنة فعل النبى صلىاللهعليهوسلم ومداومته عليه تقربا إلى الله تعالى ، وطلبا لثوابه ، واعتكاف أزواجه معه وبعده. أما أن الاعتكاف غير واجب فلأن أصحاب النبى صلىاللهعليهوسلم لم يلتزموا الاعتكاف كلهم ، وإن صح عن كثير من الصحابة فعله. وأيضا فإن النبى صلىاللهعليهوسلم لم يأمر أصحابه بالاعتكاف إلا من أراده ، لقول النبى صلىاللهعليهوسلم : «من كان اعتكف معى ، فليعتكف العشر الأواخر» أى من شهر رمضان ، ولو كان واجبا لما علقه بالإرادة.
ويلزم الاعتكاف بالنذر ؛ لقول النبى صلىاللهعليهوسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ، وعن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : يا رسول الله ، إنى نذرت أن أعتكف ليلة فى المسجد الحرام ، فقال النبى صلىاللهعليهوسلم : «أوف بنذرك».
ينظر : البيجرمى على المنهج (٢ / ٥٩١) ، المغنى (٢ / ١٨٣) ، الفتاوى الهندية (١ / ٢١١) ، الشرح الصغير (١ / ٧٢٥).