ثم بين فيه ـ عزوجل ـ شدة اشتياق الناس إليها ، وتمنيهم الحضور بها ، مع احتمال الشدائد والمشقة ، وتحمل المؤن ، مع بعد المسافة والخطرات ؛ فدل أن الله تعالى ـ بلطفه وكرمه ـ حبب ذلك إلى قلوب الخلق ، وأنه جعل من آيات الربوبية والوحدانية ، وتدبير سماوى ، لا من تدبير البشرية.
وفيه دلالة نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ إذ أخبر عما قد كان ؛ فثبت أنه أخبر عن الله عزوجل.
وقوله : (وَأَمْناً) لمن دخله من عذاب الآخرة.
وقيل : (وَأَمْناً) لكل مجترم (١) آوى به ، وآوى إليه من القتل ، وغيره ؛ كقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] عن كل ما ارتكب.
وأما عندنا : فإنه إن قتل قتيلا ، ثم التجأ إليه ، فإنه لا يقتل ما دام فيه ؛ لأنه لا يقتل للكفر (٢) هنالك.
__________________
ـ ووجه الدلالة من الآيات أنها تدل على أن أفعال العباد واقعة بقدرة حادثة منها ، وهذه القدرة يخلقها الله تعالى مقارنة للفعل لا سابقة عليه ولا متأخرة عنه.
ثانيا : الأدلة العقلية :
استدل الماتريدية من المعقول ، فقالوا : «إن كل واحد منا يعرف بطريق الضرورة الفرق بين ما هو فيه مختار وله فيه عمل ، وبين ما هو فيه مضطر ، فمن سوى بين الأمرين كالمجبرة فإن بطلان قوله لا يحتاج إلى برهان».
وقالوا : «إن العبد يقدر بإقدار الله له فلا يمكن أن يقدر بإقدار من ليست له القدرة عليه كما لا يجوز أن يعلم بإعلام من لا علم له به ، ومعلوم أن فاقد الشىء لا يعطيه فلا يمكن لأحد أن يقدر غيره على شىء لم يقدر هو عليه.
وقد ثبتت قدرة الله عليه وعلى ما يقدره الله عليه ، فمحال وجود الفعل بغير قدرته مما يدل على أنه تعالى خالق ذلك الفعل ولا خالق سواه.
وخلاصة القول فى المسألة أن العبد مسير ومخير ، مسير فى الأمور الخارجة عن قدرته ، ومخير فيما هو واقع تحت قدرته.
وأن العبد فى الأفعال الاختيارية الواقعة تحت قدرته يوقع الأفعال بإرادة الله ومشيئته ، وأن إرادة الله ومشيئته لا تعنى الإجبار ، بل تعنى أن فعل العبد لا يتأخر وقوعه ولا يتقدم عن تقدير الله له.
ويعضد هذا القول منهج القرآن الكريم فى هذه المسألة ، فهو تارة ينسب الأفعال تحت قدرة العبد ، فيقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] ويقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] وتارة يجعل أفعال العباد خاضعة لمشيئة الله وإرادته ، فيقول ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] ولا تنافى بين الأمرين. والله أعلم. ينظر : المغنى للقاضى عبد الجبار (٨ / ١٩٣) ، الأصول الخمسة ص (٣٣٤) ، والملل والنحل (١١٤) ، والفرق بين الفرق (٢١١).
(١) فى أ : مجرم.
(٢) فى أ : لكفر.