إلا التحكيم ، وأن يبعث علي حكما ويبعث معاوية حكما ، فأجابهم علي إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يجيبهم إليه ، فلما أجاب علي إلى ذلك بعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حكما ، وبعث علي وأهل العراق أبا موسى حكما ، وأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق ، ومن هاهنا بدأ أمر الخلاف بين المسلمين يزداد تشعبا ، وبدأت الفرق المختلفة في الظهور ، كالتالي :
أولا : الخوارج
بيّنا في هذا العرض السابق لأحداث النزاع بين على ومعاوية أن أصحاب علي من أهل العراق قد حملوه حملا على إجابة معاوية إلى التحكيم حين أمر بالمصاحف فرفعت على أسنة الرماح ، وقال أهل الشام لأهل العراق : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم ، وذلك على الرغم من أن عليّا ـ كرم الله وجهه ـ بيّن لهم ما ينطوي عليه نداء معاوية بتحكيم كتاب الله من مكر وخديعة ، فأبوا إلا التحكيم.
فلما وقف هؤلاء على خدعة التحكيم وأدركوا مرماه البعيد الذي أراده معاوية ، رفضوا التحكيم وطلبوا إلى علي أن ينقض ما أعطاه للحكمين ـ أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص ـ من العهد والميثاق ؛ لأن حكم الله في الأمر واضح جلي ، والتحكيم يتضمن شك كل فريق من المحاربين أيهما المحق ، وليس يصح هذا الشك ؛ لأنهم وقتلاهم إنما حاربوا وهم مؤمنون ـ بلا شك ـ أن الحق في جانبهم. وهذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية : «لا حكم إلا لله» فسرت الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي ، وتجاوبتها الأنحاء ، وأصبحت شعار هذه الطائفة (١).
وذهبت الخوارج إلى إكفار علي إذ قبل التحكيم ، وطلبوا إليه أن يقر بما باء به من إثم ثم يتوب ويرجع إلى قتال أهل البغي ؛ وإلا تخلوا عنه وصاروا من عدوه بعد أن كانوا من شيعته.
فأبى علي إلا الوفاء بما أعطى من عهود ومواثيق ، ثم كيف يقر على نفسه بالكفر ولم يشرك بالله شيئا مذ آمن ، وهبه أخطأ في قبول التحكيم ـ مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قبله مضطرّا لا مختارا ـ فلا يعدو أن يكون مجتهدا أخطأ فله أجر واحد ، وإن كان قد أصاب فله أجران ، ولا يستقيم لذي عقل إكفار المجتهد المخطئ.
__________________
(١) أحمد أمين ، فجر الإسلام ، (ص ٤٠٦).