ثم لا يحتمل : كون ذلك الماء بكليته فيه ، لصغره وخفته ، ولا كان ينبغى ذلك من أسفله.
فإذا كان هذا كما ذكرنا ظهر أن الله ـ عزوجل ـ كان ينشئ ذلك الماء فيه ، ويحدث من لا شىء ؛ لأن ذلك الحجر لم يكن من جوهر الماء ، ولا من أصله.
فإذا كان قادرا على هذا فإنه قادر على إنشاء العالم من لا شىء سبق ، ولا أصل تقدم.
وكذلك ما أراهم ـ عزوجل ـ من العصا : الثعبان والحية ، لم يكونا من جوهرها ، ولا من أصلها ، ولا تولدها منها ، بل أنشأ ذلك وأبدع ، بلطفه. والله الموفق.
وقوله : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً).
قيل (١) : كانوا اثنى عشر سبطا ؛ لقوله : (اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) [المائدة : ١٢] وهم بنو يعقوب ؛ فجعل لكل سبط نهرا على حدة ، فانضم (٢) كل فريق إلى أبيهم الذى كانوا منه ، ولم ينضموا إلى أعمامهم وبنى أعمامهم.
ففيه دلالة : أن المواريث لا تصرف إلى غير الآباء إلا بعد انقطاع أهل الاتصال بالآباء.
وفيه دلالة : أن القوم فى الصحارى والبوادى ينزلون مجموعين غير متفرقين ، ولا متباعدين بعضهم من بعض بحيث يكون بعضهم عونا لبعض وظهيرا ؛ لأنهم نزلوا جميعا فى موضع واحد ، مجموعين ـ مع كثرتهم وازدحامهم ـ غير متفرقين ولا متباعدين ، وإن
__________________
ـ كما يقول الملحدون فإن المصادفة تضاد النظام وتخالفه كل المخالفة.
محال أن يكون هذا النظام المتناهى فى الدقة من أثر الفوضى والإهمال وأن ينسب إلى عدم الفاعل والموجد ، تلك محالات أزلية يرفض العقل الاقتناع بها والركون إليها وها هى أكثر الآيات الدالة على وجود الخالق العظيم آتية بطريق الاستفهام التقريرى مما يدل على أن الجميع مقرون بوجوده :
هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ [فاطر : ٣] (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠] (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان : ١١] (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور : ٣٥ ـ ٣٦].
هذه دلائل واضحة يسلم بها العقل متى عرضت عليه لأن فى فطرته الاعتراف بها ، فقد ثبت بهذه الأدلة وبما سبقها من الأدلة العقلية والكونية أن للعالم صانعا مختارا فى إيجاده وكون هذا العالم على هذا الوجه المشاهد بدون اضطرار ولا إيجاب.
ينظر أصول الدين ص (٣٤ ، ٣٣ ، ١٤) ، العقيدة النظامية (١ / ٣٠٩) ، العقيدة النسفية ص (٢٣ ، ٢٥) ، نشر الطوالع ص (١٧٥ ، ١٧٧) ، التعريفات (٨٦) ، المطالب العالية للرازى (١ / ٣٠٩ ، ٣١١) وما بعدها ، الفصل فى الملل والأهواء والنحل (١ / ٤٧) وما بعدها ، تهافت الفلاسفة ص (٥٠).
(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٤٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٠).
(٢) فى أ : فانقسم.