__________________
ـ تعالى وجود البارى تعالى أزلى فيلزم أن يكون وجود العالم أزليّا.
والجواب عن هذه الشبهة :
هذا ينتقض بإيجاد هذه الصور والأعراض الحادثة فإنه جود ولم يلزم منه قدم الصورة والأعراض.
هذا وقال إمام الحرمين فى الإرشاد مستدلا على حدوث العالم وعدم قدمه بطريق الإلزام :
الأرض عند خصومنا محفوفة بالماء ، والماء بالهواء ، والهواء بالنار ، والنار بالأفلاك ، وهى أجرام متميزة شاغلة جوا وحيزا وبالاضطرار تعلم أن فرض هذه الأجسام متيامنة عن مقرها أو متياسرة أو أكبر مما وجدت شكلا وعظما أو أصغر من ذلك ليس من المستحيلات وكل مختص بوجه من وجوه الجواز دون سائر الوجود محتاج بضرورة العقل إلى مخصص.
وقد قامت البراهين على أن المخصص لهذه الكائنات هو الله الفاعل المختار فبطل حينئذ كون المادة قديمة وعلة وقد قام البرهان القاطع على أن موجد العالم إله متصف بجميع صفات الكمال فيكون هو الموجد للمادة كما أنه موجد للكائنات بطريق الاختيار لا بطريق العلة والضرورة.
وكان ينبغى ألا يختلف الناس فى هذه العقيدة ؛ لأن دلالة الأثر على المؤثر والفعل المحكم على الحكيم دلالة بديهية فطرية بل قالوا إن ذلك مما يدركه الحيوان الأعجم فضلا عن الإنسان فإنك إذا ضربت الحيوان التفت ليرى من ضربه لأنه مركوز فى فطرته أن الأثر لا يكون بلا مؤثر والفعل لا يكون بلا فاعل وقد قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور : ٤١] وإذا رأيت كلمة من ثلاثة أحرف لم تشك فى أن كاتبا كتبها ، وما مثل من ينكر الخالق جل وعلا ـ وهو أظهر من الشمس ـ إلا كمن رأى كتابا بديع المبانى بليغ المعانى ، وفيه من الأفكار السامية والأدب الرائع ما يفوق أفكار أفلاطون وأدب أبى العلاء ، فلما نظر فيه قال ما هذا الكتاب إلا أوراق كانت فى صندوق وكان معها شىء من حروف الطباعة ، ثم اهتز الصندوق هزات متوالية فوجد ذلك الكتاب على ما ترون فهل لا ترمى صاحب تلك الفلسفة بالجنون وإذا كنت لا تسلم أن باخرة توجد بلا مهندس ، بل لا تسلم أن كلمة صغيرة توجد بلا كاتب ، فكيف تسلم أن هذا الكون العظيم الذى بهر العقول وحير الألباب قد وجد بلا موجد ونظم بلا منظم ، وكان كل ما فيه من نجوم وغيوم وقفار وبحار وليل ونهار وظلمات وأنوار وأشجار وأزهار وشموس وأقمار إلى أنواع لا يحصيها العد ولا يأتى عليها الحصر قد وجدت بلا موجد إن هذا لهذيان وجنون.
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ٦ ـ ١١] ترشد هذه الآيات إلى أن القائل فى السموات كيف نسق هذا النظام البديع وارتبطت كواكبها بعضها ببعض حتى أشبهت ـ من حيث خضوعها لنظام بديع وترتيب عجيب ـ البناء المحكم فمن الذى نظم عقد هذه الكواكب ومن الذى رتبها حتى صارت بهجة للناظرين ومن الذى أزاح عنها الخلل فليس فى هذا البناء المحكم فروج ينفذ فيها الخلل فتختل دوراتها فيصطدم بعضها ببعض اصطداما يتداعى منه ذلك البنيان وتندك منه السماء (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١] إن الذى بيده أمر هذه المجاميع العلوية والسفلية وينظم أمرها ويحفظها من الخلل ويعطى كل شىء منها قسطه الطبيعى لا بد أن يكون موجدا مريدا مختارا.
مثل هذا النظام الذى تنجلى فيه الحكمة والعناية والدقة والإحاطة محال أن ينسب إلى المصادفة ـ