أراد يوسف تبشير أبيه بحياته ، وإدخال السرور عليه بذلك ، وتصديقه بإرسال حلة من حلله التي كان يستشعر بها أو يتدثر ، ليكون في مقابلة القميص الأول ، جالب الحزن ، وغشاوة العين. و (الإلقاء على وجهه) بمعنى المبالغة في تقريبه منه ، لما ناله من ضعف بصره ، فتتراجع إليه قوة بصره ، بانتعاش قلبه ، بشمّه واطمئنانه على سلامته. وللمفرحات تأثير عظيم في صحة الجسم ، وتقوية الأعضاء ، وقد جوّد الكلام في ذلك الحكيم داود الأنطاكيّ في (تذكرته) في مادة مفرح بما لا يستغنى عن مراجعته.
وفي (الكنوز) من كتب الطب : الفرح ، إن كان بلطف ، فإنه ينفع الجسم ، ويبسط النفس ، ويريح العقل ، فتقوى الأعضاء وتنتعش. انتهى.
ثم رأيت الرازيّ عوّل على نحو ما ذكرناه ، وعبارته : قال المفسرون : لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه ، فقالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه. قال المحققون : إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى ، ولو لا الوحي ، لما عرف ذلك ، لأن العقل لا يدل عليه. ويمكن أن يقال : لعل يوسف عليهالسلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء ، وضيق القلب ، ضعف بصره ، فإذا ألقي عليه قميصه ، فلا بد أن ينشرح صدره ، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد. وذلك يقوي الروح ، ويزيل الضعف عن القوى ، فحينئذ يقوى بصره ، ويزول عنه ذلك النقصان. فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب. فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى. انتهى.
ولعل الرازيّ عنى بالمحققين الصوفية ، أو من يقف على الظاهر وقوفا بحتا ، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد ، ينبغي التفطن له.
وقد جوز في قوله : (يَأْتِ بَصِيراً) أن يكون معناه يصير بصيرا ، أو يجيء إليّ بصيرا ، على حقيقة الإتيان ف (بصيرا) حال. قيل : ينصره قوله : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي : بأبي وغيره ، وفيه نظر ، لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى. ولا يقال : الأصل الحقيقة ، لأن ذلك فيما يقتضيه السياق ، ولا اقتضاء هنا. فالأول أرق وأبدع ، لما فيه من التجانس.
روي أن يوسف عليهالسلام ، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم : إن الله بعثني أمامكم لأحييكم وقد مضت سنتا جوع في الأرض وبقي خمس سنين ، ليس فيها حرث ولا حصاد. فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض ، ويستبقيكم