وبعد بيان المقدمة أعلاه نستعرض أبعاد قصة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).
«حشر : في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك ، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود ، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين ، ولأنّ هذا أوّل اجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر ، وهذه بحد ذاتها إشارة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.
ويضيف الباريء عزوجل : (مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللهِ). لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة ، وقدرتهم المادية الظاهرية.
ولأنّ الله سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته ، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب ، هو دليل على قدرته سبحانه ، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله.
ولذلك يضيف ـ استمراراً للبحث الذي ورد في الآية ـ قوله تعالى : (فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ). نعم ، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين ، وقد خيّم على قلوبهم ، وسلب منهم قدرة الحركة والمقاومة ، لقد جهّزوا وهيّأوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى ، حيث يرسل لهم جيشاً من داخلهم.
وفي نهاية الآية ـ بعنوان استنتاج كلي ـ يقول تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يَأُولِى الْأَبْصَارِ).
«اعتبروا : من مادة إعتبار وفي الأصل مأخوذة من العبور ، أي العبور من شيء إلى شيء آخر ، ويقال لدمع العين عبرة بسبب عبور قطرات الدموع من العين ، وكذلك يقال عبارة لهذا السبب ، حيث إنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر ، وإطلاق تعبير المنام على تفسير محتواه ، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.
وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات عبر لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكليّة وتنقله من موضوع إلى آخر.
والتعبير ب اولى الأبصار إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين