من النار (فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) فيمسك عنهم قدر عمر الدنيا مرّتين ثمّ يردّ عليهم :
(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨). قال : فو الله ما ينبس القوم بعدها بكلمة ، وما هو إلّا الزفير والشهيق ، فشبّه أصواتهم بأصوات الحمير أوّلها زفير وآخرها شهيق.
ذكر بعضهم أنّهم يدعون ـ قبل أن يدعوا مالكا ـ خزنة جهنّم عشرين عاما فلا تجيبهم. ثمّ تجيبهم : (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٥٠) [غافر : ٥٠] ، ثمّ يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثمّ يجيبهم : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ). ثمّ يدعون ربّهم فيذرهم قدر عمر الدنيا مرّتين ثمّ يجيبهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي : اصغروا فيها. والخاسئ : الصاغر. وقال بعضهم : الخاسئ الذي لا يتكلّم بشيء ، ليس إلّا الزفير والشهيق.
قوله : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) : يعني المؤمنين (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١٠٩) : أي أفضل من رحم. وقد يجعل الله الرحمة في قلوب من يشاء ، وذلك من رحمة الله ، وهو أرحم الراحمين.
ذكروا عن سلمان الفارسيّ قال : خلق الله مائة رحمة ، كلّ رحمة منها طباقها السماوات والأرض. فأنزل الله منها رحمة واحدة ؛ فبها يتراحم الخلائق حتّى ترحم الوالدة ولدها ، والبهيمة بهيمتها. فإذا كان يوم القيامة جاء بتلك التسع والتسعين رحمة فكملها مائة رحمة ، ثمّ نصبها بينه وبين خلقه. فالمحروم من حرم تلك الرحمة (١). قوله : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) : يقوله لأهل النار (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (١١٠) : أي كانوا يسخرون بأصحاب (٢)
__________________
(١) هذا نصّ حديث رواه أحمد ومسلم عن سلمان الفارسيّ ، وروي عن أبي هريرة أيضا ، ورواه ابن ماجه وأحمد عن أبي سعيد. ولفظ مسلم في كتاب التوبة ، باب في سعة رحمة الله تبارك وتعالى ... (رقم ٢٧٥٢) : «عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : إنّ لله مائة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوامّ ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون. وبها تعطف الوحش على ولدها ، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة ، يرحم بها عباده يوم القيامة».
(٢) كذا في المخطوطات : «يسخرون بأصحاب الأنبياء» ، يقال : سخر به وسخر منه. وقال الفرّاء : سخرت منه ، ولا يقال : سخرت به ، وأجازه الأخفش. ولا شكّ أنّ أفصح اللغتين هي سخر منه ؛ لأنّها العبارة التي وردت في القرآن في آيات كثيرة ، كقوله تعالى في سورة هود : ٣٨ : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ـ