قال ابن عمر : (أشد الناس عذابا يوم القيامة : من كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، والمنافقون.) روى أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، وهم ينظرون إليها ، حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى وقال : اللهم اجعلنى من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ، ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، ثم قام وتوضأ وصلّى وبكى ، ثم كشف المنديل ، وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية ، تسيل دسما وعند ذنبها خل ، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث ، وخمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد. قال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ، ولكنه اخترعه الله بقدرته ، كلوا ما سألتم ، واشكروا الله يمددكم ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال : يا سمكة ؛ : احيى بإذن الله ، فاضطربت ، ثم قال لها : عودى ، فعادت كما كانت ، فعادت مشوية ، ثم طارت المائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا.
وقيل : كانت تأتيهم أربعين يوما ، غبّا (١) ، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار ، يأكلون ، فإذا فرغوا ، طارت وهم ينظرون فى ظلها ، ولم يأكل منها فقير إلا غنى مدة عمره ، ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبدا ، ثم أوحى الله إلى عيسى : أن اجعل مائدتى فى الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطرب الناس ، فمسخ منهم ثلاثة وثمانون. وقيل : لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة ، استغفروا وقالوا : لا نريد ، فلم تنزل. قلت : المشهور أنها نزلت ، ويحكى أن أرجلها باقية بجزيرة الأندلس. والله تعالى أعلم.
الإشارة : فى سؤال الحواريين لسيدنا عيسى عليهالسلام قلة أدب من وجهين : أحدهما : خطابه بقوله : (يا عيسى ابن مريم) ؛ وقد كانت هذه الأمة المحمدية تخاطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يا رسول الله ، يا نبى الله ، لكمال أدبها ، وبذلك شرفت وعظم قدرها ، فالأدب عند الصوفية ركن عظيم ، بل هو روح التصوف وقطب دائرته ، قال بعضهم : (اجعل عملك ملحا ، وأدبك دقيقا) ، والكلام فيه عندهم طويل شهير.
والوجه الثاني : ما فى قولهم : (هل يستطيع ربك) من بشاعة التعبير ، وسوء اللفظ ، حتى اتهموا بالكفر من أجله. وقد تقدم تأويله ، وأما سؤالهم المائدة ، فقال بعض الصوفية : هى عبارة عن المعارف والأسرار الربانية التي هى قوت الأرواح السماوية ، فقوت الأشباح الأرضية ما يخرج من الأرض من الأقوات الحسية ، وقوت الأرواح السماوية ما ينزل من السماء من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، ينزل على قلوب العارفين ، ثم يبرز منها إلى قلوب عائلة المستمعين ، ولما طلبوها قبل إبانها وقبل الاستعداد لها ، قال لهم : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فلما ألحوا فى
__________________
(١) أي : يوما بعد يوم ، ليكون أشهى وأحب ـ انظر حاشية الشهاب ٣ / ٣٠٢.