قلت : (يا عيسى ابن مريم) : ابن هنا بدل ، ولذلك كتب بالألف ، و (أن ينزل) : مفعول (يستطيع) ، ومن قرأ بالخطاب ، فمفعول بالمصدر المقدر ، أي : سؤال ربك إنزال مائدة ، و (لأولنا وآخرنا) : بدل كل ، من ضمير (لنا) ، لإفادته الإحاطة والشمول كالتوكيد ، و (ذلك) : شرط إبدال الظاهر من ضمير الحاضر ، وأعيدت اللام مع البدل للفصل ، وضمير (لا أعذبه): ، نائب عن المصدر ، أي : لا أعذب ذلك التعذيب أحدا.
يقول الحق جل جلاله : واذكر (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي : هل يطيعك ربك فى هذا الأمر ، أم لا؟ فالاستفهام عن الإسعاف فى القدرة ، فهو كقول بعض الصحابة لعبد الله بن زيد : هل تستطيع أن ترينا كيف كان يتوضا رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ مع جزمهم بأن عبد الله كان قادرا على تعليمهم الوضوء. فالحواريون جازمون بأن الله ـ تعالى ـ قادر على إنزال المائدة ، لكنهم شكوا فى إسعافه على ذلك.
قال ابن عباس : كان الحواريون أعلم بالله من أن يشكوا أن الله تعالى يقدر على ذلك ، وإنما معناه ، هل يستطيع لك ؛ أي : هل يطيعك ، ومثله عن عائشة ، وقد أثنى الله ـ تعالى ـ على الحواريين ، فى مواضع من كتابه ، فدل أنهم مؤمنون كاملون فى الإيمان.
قال لهم عيسى عليهالسلام : (اتَّقُوا اللهَ) من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بكمال قدرته وصحة نبوتى ، فإنّ كمال الإيمان يوجب الحياء من طلب المعجزة ، (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) أكلا نتشرف به بين الناس ، وليس مرادهم شهوة البطن ، (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال ، أي : نعاين الآية ضرورة ومشاهدة ، فلا تعرض لنا الشكوك التي فى الاستدلال ، (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) علما ضروريا لا يختلجه وهم ولا شك ، (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي : نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس ، أو من الشاهدين للعين ، دون السامعين للخبر ، وليس الخبر كالعيان ، والحاصل : أنهم أرادوا الترقي إلى عين اليقين ، دون الاكتفاء بعلم اليقين.
(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) مسعفا لهم لما رأى لهم غرضا صحيحا فى ذلك ، روى أنه لبس جبّة شعر ، ورداء شعر ، وقام يصلى ويدعو ويبكى ، وقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي : لمتقدمنا ومتأخرنا ، يعود علينا وقت نزولها كل عام بالفرح والسرور ، فنتخذه عيدا نحن ومن يأتى بعدنا ، (وَ) يكون نزولها (آيَةً مِنْكَ) على كمال قدرتك وصحة نبوتى ، (وَارْزُقْنا) المائدة والشكر عليها ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : خير من يرزق ؛ لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض ، ونسبة الرزق إلى غيره مجاز. (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) كما طلبتم ، (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي : من عالمى زمانهم ، أو مطلقا.