لاثنان ، أو (آخران) : عطف على (اثنان) ، (إن أنتم) : شرط حذف جوابه ، دل عليه ما تقدم ، أي : إن سافرتم ، فأصابتكم مصيبة الموت فى السفر ، فشهادة بينكم اثنان.
و (تحبسونهما) : قال أبو على الفارسي : هو صفة لآخران ، واعترض بين الصفة والموصوف قوله : (إن أنتم) إلى قوله : (الموت) ، ليفيدا العد ، لأن (آخران) من غير الملة ، إنما يجوز لضرورة الضرب فى الأرض وحلول الموت فى السفر. وقال الزمخشري : هو استئناف كلام ، (إن ارتبتم) : شرطية ، وجوابها محذوف ، دلّ عليه (يقسمان) ، و (لا نشترى) هو المقسم عليه ، وجملة الشرط معترضة بين القسم والمقسم عليه ، والتقدير : إن ارتبتم فى صدقهما فأقسما بالله لا نشترى به ، أي : بالقسم ، ثمنا قليلا من الدنيا ، و (الأوليان) : خبر ، فيمن قرأ بالبناء للمفعول ، أو فاعل ، فيمن قرأ بالبناء للفاعل ، ومن قرأ (الأولين) ـ تثنية أول ـ فبدل من الذين ، أو صفة له. قال مكى : (هذه الآية أشكل آية فى القرآن ؛ إعرابا ومعنى).
وسبب نزولها : أن تميما الدّارىّ وعدي بن بداء ـ وكانا أخوين ـ ، خرجا إلى الشام للتجارة ـ وهما حينئذ نصرانيّان ـ ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما ، فلمّا قدما الشام مرض بديل ، فدون ما معه فى صحيفة ، وطرحها فى متاعه ، وشدّ عليها ، ولم يخبرهما بها ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ، ومات ، ففتّشاه ، وأخذا منه إناء من فضّة ، قيمته : ثلاثمائة مثقال ، منقوشا بالذهب ، فجنباه ودفعا المتاع إلى أهله ، فأصابوا الصحيفة ، فطالبوهما بالإناء ، فجحدا ، فترافعوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) إلى قوله : (لَمِنَ الْآثِمِينَ) فحلّفهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بعد صلاة العصر ، عند المنبر ، وخلا سبيلهما ، ثم عثر بعد مدة على الإناء بمكة ، فقيل لمن وجد عنده : من أين لك هذا؟ قال : اشتريته من تميم الداري وعدىّ بن بداء ، فرفع بنو سهم الأمر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) ، فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبى وداعة السهميان ، فحلفا واستحقا الإناء (١).
ومعنى الآية : يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، مما نأمركم به : أن تقع (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، وأراد الوصية فيحضر عدلان منكم ، فإن كنتم فى سفر وتعذر العدلان منكم ، فليشهد (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ممن ليس على دينكم ، ثم إن وقع ارتياب فى شهادتهما ، (تَحْبِسُونَهُما) بعد صلاة العصر (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) ما كتمنا ، ولا خنّا ، ولا نشترى بالقسم أو بالله عرضا قليلا من الدنيا ، ولو كان المحلوف له قريبا منا ، (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً) ، إن كتمنا ، (لَمِنَ الْآثِمِينَ).
__________________
(١) أخرجه الترمذي فى : (التفسير ، سورة المائدة) عن ابن عباس عن تميم الداري ، وقال الترمذي : ليس إسناده بصحيحه. وأخرجه مختصرا البخاري فى (الوصايا ، باب قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ)) عن ابن عباس قال : خرج رجل من بنى سهم مع تميم الداري وعدى بن بداء. وذكره مختصرا.