فإن أبيتم وكذبتم
نبيكم فقد كذب من قبلكم رسلهم ، وآذوهم ، وتأخر نصرهم ؛ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) من النصر ، أو من إيمان قومهم ؛ لانهماكهم فى الكفر ،
وتماديهم من غير وازع ، (وَظَنُّوا) أي : تيقنوا (أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُوا) أي : أن قومهم كذبوهم فيئسوا من إيمانهم. أو : وظنوا أن من
آمن بهم قد كذبوهم ؛ لطول البلاء وتأخر النصر. وأما قراءة (كذبوا) ؛ بالتخفيف ؛
فمعناه : وظنوا أنهم قد كذب عليهم فى وعد النصر .. وأنكرت عائشة ـ رضى الله عنها ـ
هذه الرواية ، وقالت : معاذ الله ؛ لم تكن الرسل تظن بربها ذلك. كما فى البخاري .
وقد يجاب بأن ذلك
كانت خواطر وهواجس من وسواس النفس ، يمر ولا يثبت ، وهو من طبع البشر ، لا يدخل
تحت التكليف. وسماه ظنا ؛ مبالغة فى طلب المراقبة ، كما تقدم فى قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها). وقال ابن جزى ، على هذه القراءة : الضميران يعودان على
المرسل إليهم ، أي : ظن الأتباع أن الرسل قد كذبوا عليهم فى دعوى الرسالة ، أو فى
مجىء النصر لما اشتد عليهم البلاء ، وتأخر عنهم النصر.
فلما يئسوا (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ
نَشاءُ) نجاته ، وهو : النبي والمؤمنون. وإنما لم يعينهم ؛ للدلالة
على أنهم الذين يستأهلون نجاتهم بالمشيئة القديمة ، لا يشاركهم فيها غيرهم ، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ) إذا نزل بهم. وفيه بيان المستثنين بالمشيئة ، كأنه قال :
ولا نشاء نجاة المجرمين.
الإشارة
: قد وجد كثير من
الأولياء بالمدن والحواضر ، وكثير منهم فى القرى والمداشر. وفضل الله يؤتيه من
يشاء ، لا يختص بمكان ولا زمان ، غير أن جلهم جمعوا بين علم المدن وتفرغ البوادي ،
يعنى : جمعوا بين شريعة المدن وحقيقة البوادي ؛ لأن أهل المدن شريعتهم قوية ،
وحقيقتهم ضعيفة. والبوادي بالعكس ؛ لكثرة العلائق فى المدن وخفتها فى البوادي ،
والحقيقة تحتاج إلى تفرغ كبير وتفكر كثير ، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) بالتخفيف ، معناه : أنهم لم يقفوا مع ظاهر الوعد ؛ لسعة
علمهم ؛ لأن ذلك الوعد قد يكون فى علم الغيب متوقفا على شروط خفية لا يعلمها ذلك
النبي أو الولي ، ليتحقق انفراده تعالى بالعلم الحقيقي ، والقهرية الغالبة. فلذلك
كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم.
وقال الورتجبي :
إنهم استغرقوا فى قلزوم الأزلية ، وغابوا تحت بحار الديمومية ، ولم يروا الحق من
كمال استغراقهم فى الحق. فلما لم يروه ناداهم لسان غيرة قهر القدم : أين أنتم؟
غبتم عنه وعن الحقيقة ، فتطلع أنوار الحقيقة عليهم ، ويأخذ لطفها عن شبكات امتحان
القهر. وهذا دأب الحق مع الأنبياء والأولياء حتى لا يسكنوا إلى ما وجدوا منه ، بل
يفنوا به عن كل ماله إليهم. ه.
__________________