قلت : والفتنة تتنوع بتنوع المقامات ؛ ففتنة أهل الظاهر : تعذر إقامة الشريعة لكثرة الهرج والفتن ، وفتنة أهل الباطن : تعذر جمع القلب بالله ؛ لكثرة الحس ، وتعرض الشواغل والعلائق. فمن وجد ذلك فى الحواضر فلينتقل إلى البوادي ، إن وجد من يعينه على الدين. والغالب أن الحواضر فى هذا الزمان يغلب فيها العوائد والشهوات ، وتعترى فيها الشواغل والشواغب ، بخلاف البادية. فإذا كان عليه الصلاة والسلام أذن لسلمة : خوف فتنة الظاهر ، فأولى خوف فتنة الباطن ؛ لأنه إذا فسد القلب فسد الجسد كله.
ثم قال ابن عطية : وقال صلىاللهعليهوسلم : «لا تعرب فى الإسلام (١)». وقال : «من بدا جفا» (٢). وعن معاذ بن جبل أنه قال : (الشّيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم ؛ يأخذ الشّاة القاصية ؛ فإيّاكم والشّعاب ، وعليكم بالمساجد ، والجماعات ، والعامة) (٣).
ثم قال : ويعترض هذا ببدو يعقوب ، وينفصل عن ذلك بوجهين : أحدهما : أن ذلك البدو لم يكن فى أهل العمود ، بل بتقرّ فى منازل وربوع ، والثاني : إنما جعله بدوا بالإضافة إلى مصر ، كما هى بنات الحواضر الصغار بدو بالإضافة إلى الحواضر الكبار. ه.
قلت : فالتعرب المنهي عنه هو اعتزال الرجل وحده فى جبل أو شعب ، وأما إن تقرر فى جماعة يقيمون الدين ، ويجتمعون عليه ، فليس بتعرب ولا بدو. ويدل عليه جواب ابن عطية الأول عن يعقوب عليهالسلام. والحاصل : أن أهل القلوب يفتشون على مصالح قلوبهم ، فأينما وجدوها فهى حاضرتهم. وقد ظهر فى البوادي أكابر من الأولياء ، ربما لم يظهروا فى الحواضر. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي : كفار مكة ، (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذبين لرسلهم : كيف هلكوا وتركوا آثارهم يشاهدونها خرابا دارسة ، فيحذروا تكذيبك ؛ ليؤمنوا ويتأهبوا للدار الآخرة ؛ (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أي : ولدار الحياة الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، وتستعملون عقولكم لتعلموا أنها خير. أو : أفلا يعقلون الذين يسيرون فى الأرض ليعلموا أن الدنيا فانية ، والدار الآخرة خير ؛ لأنها باقية.
__________________
(١) ورد : «لا تعرب بعد الهجرة» ، أخرجه ، مطولا ، عبد الرزاق فى المصنف ، (باب : لا رضاع بعد الفطام ، ٧ / ٤٦٤ ح ١٣٨٩٩) ، من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه ..
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٣٧١) ، وأبو داود فى (الصيد ، باب اتباع الصيد) والترمذي فى (الفتن ، باب سكنى البادية) والنسائي فى (الصيد ، باب اتباع الصيد) من حديث ابى هريرة ، وصححه الترمذي.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٥ / ٢٣٣) من حديث معاذ بن جبل.