الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) : أنت ناصرى ومتولى أمرى فى الدارين ، (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) : اقبضنى مسلما ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي ، أو جماعة الصالحين فى الرتبة والكرامة ، أو بالصالحين لحضرة قدسك.
روى أن يعقوب عليهالسلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ، ثم توفى ، فنقله يوسف عليهالسلام إلى الشام ليدفن مع أبويه. هكذا ذكر بعض المفسرين. وقال فى الزهر الأنيق : بقي يعقوب عليهالسلام بمصر أربعين سنة فى أطيب وقت ، وأكمل عافية ، ثم أوحى الله إلى جبريل : أن انزل إلى يعقوب ، وقل له : يرحل إلى الأرض المقدسة ، عند قبور آبائه ، يجاورهم حتى ألحقه بهم. فنادى يعقوب عليهالسلام يوسف وأولاده ، وقال لهم : قد أمرنى ربى بمجاورة أبى ؛ ليقبض روحى هناك ، ثم ودّعهم ، وخرج إلى الأرض المقدسة ، فزار قبور آبائه فبكى ، فرأى فى المنام إبراهيم على كرسى ، وإسماعيل عن يمينه ، وإسحق عن يساره ، وهم يقولون : الحق بنا يا يعقوب ، فانتبه ، ثم قام فوجد قبرا محفورا تخرج منه رائحة المسك ، فقال : لمن هذا؟ قال له ملك عنده : هو لمن يتمنى سكناه ، فقال : أنا ، فقبض روحه ملك الموت ، ثم نزل جبريل وميكائيل ـ عليهماالسلام ـ وكفناه ، وصليا عليه ، ودفناه.
قال كعب الأحبار : توفى يعقوب وهو ابن مائتى سنة ، ولما وصل نعيه يوسف بكى ، وبكى معه إخوته. ه. «قلت» : ظاهره أنهم لم يحضروا موته ، وهو خلاف قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) (١) ، إلا أن يؤول بمعنى : قرب ، فتكون وصيته وقعت حين أراد الرجوع إلى الشام ، وهو خلاف الظاهر.
ثم إن يوسف تاقت نفسه إلى الملك المخلد ، فتمنى الموت ، فقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ...) إلخ. روى أنه عاش بعد قوله هذا مدة ، ثم ماتت زليخا ، ولم يتزوج بعدها ، وعاش بعدها أربعين يوما ، ثم اشتاق إلى اللقاء واللحوق بآبائه ، فتوفاه الله طيبا طاهرا ، فتخاصم أهل مصر فى مدفنه ، حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه فى صندوق من مرمر ـ أي : رخام ـ فيدفنوه فى النيل بحيث يمر عليه الماء ، ثم يصل إلى مصر ؛ ليكونوا شرعا فيه. وفى رواية : أنهم دفنوه على ضفة النيل ؛ فخصبت وجدبت الأخرى ؛ فنقلوه للأخرى ؛ فخصبت وجدبت الأولى ، فجعلوه فى صندوق ، ودفنوه فى النيل ؛ فاخضرت الجهتان ، ثم نقله موسى عليهالسلام إلى مدفن آبائه. وكان عمره : مائة وعشرين سنة ، وقد تقدم ذكر أولاده الثلاثة : إفرائيم ، وميشا ، ورحمة امرأة أيوب ، وتقدم البحث فيها ، وذكر فى الزهر الأنيق أنه ولد له من زليخا عشرة أولاد ، فانظره. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا كان العبد فى زيادة من الأعمال ، وفى الترقي إلى مقامات الكمال ، فلا بأس أن يتمنى البقاء فى هذه الدار ؛ لزيادة الزاد إلى دار القرار ، وإذا كان فى نقصان من الأعمال ، أو خاف النقصان بعد الكمال ، فلا بأس بطلب الرحيل والانتقال ؛ كما طلبه الصّدّيق عليهالسلام بعد الملك التام. وكما فعل عمر رضى الله عنه حين انتشرت
__________________
(١) الآية ١٣٤ من سورة البقرة.