وترد ، من أزجيته ، دفعته. ومنه : (يُزْجِي سَحاباً) (١) قيل : كانت دراهم زيوفا وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل : سويق المقل أي : الدوم. وقيل : عروضا. (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) : أتممه لنا ، (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بالمسامحة ، وقبول المزجاة ، أو بالزيادة على ثمننا. وهذا يقتضى أن الصدقة كانت حلالا على الأنبياء قبل نبينا صلىاللهعليهوسلم ، وهو خلاف المشهور. أو برد أخينا ، (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أحسن الجزاء. والتصدق : التفضل مطلقا ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم فى القصر : «هذه صدقة تصدّق الله عليكم بها ، فأقبلوا صدقته» (٢).
روى أن يعقوب عليهالسلام لما أرسلهم المرة الثالثة ليتحسسوا أخبار يوسف وأخيه ، أرسل معهم كتابا ونصه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من يعقوب الحزين إلى عزيز مصر ، ولو عرفت اسمك لذكرتك فى كتابى هذا ، يا من اعتز بعز الله ، فالله يعز من يشاء ويذل من يشاء ، وإنى أيها العزيز قد اشمأز قلبى ، وقطع الحزن أوصالى ، وإنى ناه إلى الإقراح ، دائم البكاء والصياح ، وإنى من نطفة آباء كرام ، فكيف يتولد اللصوص منى وأنا من الخصوص! وقد أخبرت أنك وضعت الصّاع بالليل فى رحل ولدي الأصغر ، وإنى حزين عليه كما كنت حزينا على أخيه الفقيد ، حزنا دائما سرمدا شديدا. وإن كنت أفجعتنى فى الآخر ، فإن قلبى لا محالة طائر. ثم ختمه بالسلام.
فلما دفعوه ليوسف قرأه ، وبكى بكاء شديدا ، ثم دفعه لأخيه بنيامين فقرأه وبكى أيضا. ثم نزل عن سريره ، ثم دفع لهم الكتاب الذي كانوا كتبوه لمالك بن ذعر لمّا باعوه بخطوط شهادتهم ، كان أخذه من مالك حين باعه. فلما قرأوه تغيرت ألوانهم وتضعضعت أركانهم ، وبهتوا ، فقال لهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) ؛ من إيذاء يوسف ، وتفريقه من أبيه ، ومضرة أخيه من بعده ، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه ، أي : هل علمتم قبحه فتبتم منه؟ قاله نصحا وتحريضا لهم على التوبة. (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي : فعلتم ذلك حين كنتم جاهلين قبح ذلك. وإنما سماهم جاهلين ؛ لأن فعلهم حينئذ فعل الجهال ، أو لأنهم حينئذ كانوا صبيانا طياشين ، فعرفوه حينئذ على ظن ، فقالوا : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ)؟ بالاستفهام التقريرى. وقرأ ابن كثير على الإيجاب. قيل : عرفوه بذوائبه وشمائله حين نزل إليهم وكلمهم. وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه. وقيل : رفع التاج عن رأسه فعرفوه بشامة كانت فى رأسه بيضاء ، وكانت لسارة ويعقوب مثلها.
(قالَ) لهم : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) من أبى وأمي. ذكره تعريفا لنفسه به ، وتفخيما لشأنه ، وإدخالا له فى المنة بقوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالسلامة والكرامة والعز ، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) الله (وَيَصْبِرْ) على بلواه ، وعلى طاعته وتقواه (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ، وضع المحسنين موضع المضمر ؛ تنبيها على أن المحسن جمع بين الصبر والتقوى. فمن اتقى الله وصبر فهو محسن ..
__________________
(١) من الآية ٤٣ من سورة النور.
(٢) أخرجه مسلم فى (صلاة المسافرين ، باب صلاة المسافرين وقصرها) من حديث سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه.