(وَقالَ الْآخَرُ) وهو الخباز : (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ) : تنهش (الطَّيْرُ مِنْهُ) ، قال : رأيت كأن العزيز دعانى ، وأخرجنى من السجن ، ودفع لى طيفورة عليها خبز ، فوضعتها على رأسى ، والطير تأكل منه. (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ؛ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا. وإنما قالا له ذلك ؛ لأنهما رأياه فى السجن يعظ الناس ويعبر رؤياهم ، أو من المحسنين إلى أهل السجن ، كان عليهالسلام إذا رأى محتاجا طلب له ، وإذا رأى مضيقا وسع عليه ؛ فقالا له : فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) فى النوم ، (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) تأويله فى الدنيا. أو : لا يأتيكما طعام ترزقانه فى اليقظة ؛ لتأكلاه إلا أخبرتكما به ، ما هو؟ وما لونه؟ وما صفته؟ وكم هو؟ قبل أن يأتيكما ، إخبارا بالغيب ، فيأتيهما كذلك ؛ معجزة. وصف نفسه بكثرة العلم والمكاشفة ؛ ليكون وسيلة إلى دعائهما إلى التوحيد.
ثم قال لهما : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بالوحى والإلهام. وليس ذلك من قبيل التكهن أو التنجيم. روى أنهما قالا له : من أين لك هذا العلم ، وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ) ؛ طريقة (قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي : علمنى ذلك لأنى تركت ملة أهل الكفر ، (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، وإنما قال ذلك ؛ تمهيدا للدعوة ، وإظهارا أنه من بيت النبوة ؛ لتقوى رغبتهما فى الاستماع إليه ، والوثوق به. (ما كانَ لَنا) : ما صح لنا معشر الأنبياء (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أىّ شرك كان ، (ذلِكَ) التوحيد (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) بالوحى (وَعَلَى النَّاسِ) ببعثنا إليهم ، وإرشادنا إياهم وتثبيتهم عليه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) هذا الفضل ؛ فيعرضون عنه. أو من فضل الله علينا بالوحى والإلهام ، وعلى الناس بنصب الدلائل وإنزال الآيات. ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ، ولا يستدلون بها ، فيوحدون خالقها ، فهم كمن كفر النعمة ولم يشكرها.
الإشارة : جرت عادة الحق ـ تعالى ـ فى خلقه أنه لا يأتى الامتكان إلا بعد الامتحان ، ولا يأتى السلوان إلا بعد الأشجان ، ولا يأتى العز إلا بعد الذل ، ولا يأتى الوجد إلا بعد الفقد. فبقدر ما يضيق على البشرية تتسع ميادين الروحانية ، وبقدر ما تسجن النفس وتحبس عن هواها ، تتسع الروح فى مشاهدة مولاها.