ثم نعى عليهم مقالاتهم الشنيعة ، التي هى من جملة قولهم الإثم ، فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي : مقبوضة عن بسط الرزق. روى أن اليهود أصابتهم سنة جدبة بشؤم تكذيبهم للنبى صلىاللهعليهوسلم فقالوا هذه المقالة الشنيعة ، والذي قالها فنحاص ، ونسبت إلى جملتهم ؛ لأنهم رضوا بقوله ، فغل اليد كناية عن البخل ، وبسطها كناية عن الجود ، ومنه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (١).
ثم رد عليهم فقال : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ، يحتمل أن يكون دعاء أو خبرا ، ويحتمل أن يكون فى الدنيا بالأسر والقبض ، أو فى الآخرة بجعل الأغلال فيها إلى عنقهم فى جهنم ، قال تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) أي : نعمه مبسوطة على عباده ، سحاء عليهم ، الليل والنهار ، وإنما ثنيت اليدان هنا ، وأفردت فى قول اليهود ؛ ليكون أبلغ فى الرد عليهم ، ومبالغة فى وصفه تعالى بالجود والكرم ، كما تقول : فلان يعطى بكلتا يديه ؛ إذا كان عظيم السخاء ، أو كناية عن نعم الدنيا والآخرة ، أو عن ما يعطيه استدارجا وما يعطيه للإكرام. ثم أكده بقوله : (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي : هو مختار فى إنفاقه ، يوسع تارة ويضيق تارة أخرى ، على حسب مشيئته ومقتضى حكمته.
ولمّا عميت بصيرتهم بالكفر ، وقست قلوبهم بالذنوب ، كانوا كلما ازدادوا تذكيرا بالقرآن ، زادوا فى العتو والطغيان ، كما قال تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) ؛ إذ هم متعصبون بالكفر والطغيان ، ويزدادون طغيانا وكفرا بما يسمعون من القرآن ، كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء.
ومن مساوئهم أيضا : تفريق قلوبهم بالعداوة والشحناء ، كما قال تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ؛ فلا تتوافق قلوبهم ولا تجتمع آراؤهم ؛ (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أي : كلما أرادوا حرب الرسول ـ عليه الصلاة السّلام ـ وإثارة شر عليه ، ردهم الله ، وأبطل كيدهم ، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم ، أو : كلما أرادوا حرب عدو لهم هزمهم الله ، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمون. فكان شأنهم الفساد ، ولذلك قال تعالى فيهم : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي : الفساد بإثارة الحروب والفتن ، وهتك المحارم ، واجتهادهم فى الحيل والخدع للمسلمين ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي : لا يرضى فعلهم فلا يجازيهم إلا شرا وعقوبة.
__________________
(١) من الآية ٢٩ من سورة الإسراء.