أحسن أم الشمس أم القمر؟ فإذا بيوسف قد انتبه من نومه ، وقال : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ...) إلخ ، فلما قص الرؤيا على أبيه بكى ، فقال يوسف : لم تبكى يا أبتى؟ قال : يا بنى لم يسجد مخلوق لمخلوق إلا عند المحنة ، والبلاء ، ألا ترى الملائكة لما أسجدهم الله لآدم ، كيف ابتلى بالخروج من الجنة؟ ثم قال له : يا بنى ؛ الشمس والقمر أنا وخالتك ـ وكانت أمه قد ماتت ـ والإحدى عشر كوكبا إخوتك. ه.
(قالَ يا بُنَيَ) ، وهو تصغير ابن ، صغر للشفقة أو لصغر السن ، وكان ابن ثنتى عشرة سنة ، (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) ؛ فيحتالوا لإهلاكك حيلة. فهم يعقوب عليهالسلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ، ويفوقه على إخوته ، فخاف عليه حسدهم. ومن خاف من شىء سلط عليه.
والرؤيا تختص بالنوم ، والرؤية ، بالتاء بالبصر. قال البيضاوي : وهى انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والمصادفة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت ؛ لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ. انظر تمامه فيه. وأخرج الحاكم فى المستدرك ، والطبراني فى الأوسط ، عن ابن عمر قال : لقى عمر عليّا ـ رضى الله عنهما ـ فقال : يا أبا الحسن ، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ، ومنها ما يكذب ، قال : نعم. سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلى نوما إلا عرج بروحه إلى السماء. فالتى لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب» (١). ه. فمنها ما تكون واضحة المعنى لا تحتاج إلى تعبير ، ومنها ما تكون خفية تحتاج إلى تعبير. والمعبر يحتاج إلى علم وفراسة وزيادة إلهام ، فعلم التعبير علم مستقل ، قد أعطى الله منه ليوسف عليهالسلام حظا وافرا.
ولما قال يعقوب لابنه : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) قال : يا أبت ، الأنبياء لا يكيدون ، قال له : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ؛ ظاهر العداوة ؛ لأجل ما فعل بآدم وحواء ، فلا يألوا جهدا فى تسويلهم ، وإثارة الحسد فيهم ، حتى يحملهم على الكيد. قيل : لم يسمع كلام يوسف فى رؤياه إلا خالته ـ أم شمعون ـ فقالت لإخوته : التعب عليكم ، والإقبال على يوسف. فحركهم ذلك حتى فعلوا ما فعلوا. وقيل : أخبرت بذلك ولدها شمعون ، فأخبر شمعون إخوته ؛ فخلوا به وقالوا له : إنك لم تكذب قط. فأخبرنا بما رأيت فى نومك ، فأبى. فأقسموا عليه ، فأخبرهم. فوقعوا فيما فعلوا به.
ثم قال له : (وَكَذلِكَ) أي : وكما اجتباك لهذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس ، (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) للنبوة والملك ، أو لأمور عظام ، (وَيُعَلِّمُكَ) أي : وهو يعلمك (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ؛ من تعبير
__________________
(١) أخرجه الحاكم فى المستدرك (٤ / ٣٩٦ و ٣٩٧).