فالمراد بالقبضتين : الحس والمعنى ، وإن كانا فى الأصل قبضة واحدة ، لكن لما تجلت بالضدين سمّاها قبضتين. فالحس رداء للمعانى. وسماه هنا قميصا ؛ لأنه يستر كالرداء ، فإذا رفع القميص عن عيون البصيرة رأت ما غاب عنها من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، وهذا معنى قوله : ضع قميصى عن العيون. إلخ ... ورفع حجاب المعنى عن البصيرة هو بشير الولاية وعنوانها. والله تعالى أعلم.
ولما بيّن كمال علمه ذكر كمال قدرته ، فقال :
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))
يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وما بينهما وما فيهما (فِي) مقدار (سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا ، أو خلق العالم العلوي والسفلى فى مقدار ذلك. وجمع السموات دون الأرض ؛ لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات. (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قيل : لم يكن بينهما حائل ، وكان موضوعا على متن الماء. واستدل به على إمكان الخلاء ، وعلى أن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل : كان الماء على متن الريح. والله أعلم بذلك. قاله البيضاوي.
قلت : الخلاء هو الفضاء الخارج عن دائرة الأكوان. وهو عند المتكلمين من جملة الممكنات ، ووجه الاستدلال من الآية على إمكانه : أن العرش والماء لما كانا محصورين لزم أن يكون ما خرج عنهما خلاء ، وكل ما سوى الله فهو ممكن. وعند الصوفية : هو أسرار الذات الأزلية الجبروتية ، كما أن الأكوان هى أنوار الصفات الملكوتية ، ولا شىء معه ، (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). ونقل بعض أهل التاريخ : أن الله تعالى خلق بعد العرش ياقوتة صفراء ، ذكروا من عظمتها وسعتها ، ثم نظر إليها ، فذابت من هيبته ، فصارت ماء ، فكان العرش مرتفعا فوقها ، ثم اضطرب ذلك الماء ، فعلته زبدة ، خلق منها الأرض ، ثم ارتفع من الماء دخان خلق منه السموات (١). ه.
خلق ذلك (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي : ليختبركم اختبارا تقوم به الحجة عليكم ، (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بالزهد فى هذا العالم الفاني ، وتعلق ألهمه بالعالم الباقي قال البيضاوي : أي : يعاملكم معاملة المبتلى لأحوالكم ، كيف تعملون؟ فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم ، وما تحتاج إليه أعمالكم ، ودلائل
__________________
(١) كلام أهل التاريخ لا برهان عليه ، والأصح : أن يرجع فى هذا ـ إن أمكن معرفته ـ إلى علماء الطبيعة .. وإلا فإن الله تعالى يقول : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) الآية ٥١ من سورة الكهف.