الإشارة : هم الرزق ، وخوف الخلق ، من أمراض القلوب ، ولا ينقطعان عن العبد حتى يكاشف بعلم الغيوب وهو التوحيد الخاص ؛ أعنى : الرسوخ فى الشهود والعيان. وإنما يضر العبد ما كان ساكنا ، وأما الخواطر التي تلمع وتذهب ، فلا تضر ؛ لأن الإنسان خلق ضعيفا.
واعلم أن الرزق على قسمين : رزق الأرواح ، ورزق الأشباح. فرزق الأرواح معنوى ، وهو : قوت الروح من المعرفة وعلم اليقين. ورزق الأشباح حسى ، وهو : الطعام والشراب. وقد تكفل الله بالأمرين معا ، وأمر بالتسبب فيهما ، قياما برسم الحكمة. فالتكفل حقيقة ، والتسبب شريعة ، فالعامة اشتغلوا بالتسبب فى الرزق الحسى والبحث عنه ، ولم يعبأوا بالرزق المعنوي ، ولا عرفوه ؛ من شدة إعراضهم عنه ، مع أنهم لو فقدوا الرزق المعنوي لماتت أرواحهم. والخاصة اشتغلوا بالتسبب فى الرزق المعنوي والبحث عنه ، ولم يعبأوا بالرزق الحسى من شدة إعراضهم عنه ، مع أنهم لو فقدوا الرزق الحسى لهلكت أشباحهم. وخاصة الخاصة يتسببون فى الرزق الحسى والمعنوي ، وليس هم مع إرادتهم فى واحد منهما ، وإنما هم أبدا مع إرادة مولاهم راتعين أبدا ، حيث دفعتهم إرادة سيدهم فى الحسى أو فى المعنوي من غير تبرم ولا التفات لغيره ، كما قال القائل (١).
أراني كالآلات وهو محركى |
|
أنا قلم ، والاقتدار أصابع |
العامة قد حجبوا عن الله بإرادتهم للرزق الحسى ، حيث صار الرزق الحسى هو حظ النفوس. صاروا مع حظ نفوسهم لا غير ، والخاصة وجدوا الله فى طلبهم للرزق المعنوي ، لأنه حق الله ، لا حظ للنفس فيه ، لأجل ذلك لمّا كانوا لله كان الله لهم. وخاصة الخاصة ليس هم مع إرادتهم فى شىء ، بل هم بالله فى الأحوال كلها لا بنفوسهم. قد انمحت إرادتهم فى إرادة الله ، فصارت إرادتهم إرادة الله ، وفعلهم فعله. وهذا المقام يقال له : التمكين بالتلوين. ه. قاله شيخ شيوخنا سيدى على الجمل العمراني رضى الله عنه فى كتابه ، نفعنا الله بهم جميعا.
قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أي : يعلم مستقرها فى العلم ، ومستودعها فى العمل ، أو مستقرها فى الحال ، ومستودعها فى المقام ، أو مستقرها فى الفناء ، ومستودعها فى البقاء ، أو مستقرها فى التلوين ومستودعها فى التمكين ، أو مستقرها فى عالم الأشباح ، ومستودعها فى عالم الأرواح. وأنشدوا :
كلّ شىء سمعته أو تراه |
|
فهو للقبضتين يشير |
ضع قميصى عن العيون ترى ما |
|
غاب عنك فقد أتاك البشير |
__________________
(١) وهو الشيخ عبد الكريم الجيلي ، فى العينية.