والحاصل : إن الإثناء إن كان عن الحق ـ فالضمير فى : (منه) ، يعود على الله ، وإن كان عن النبي صلىاللهعليهوسلم فالضمير يعود عليه ؛ وفى البخاري عن ابن عباس : (أنها نزلت فيمن كان يستحى أن يتخلّى أو يجامع فيفضى إلى السماء).
وقوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) : يحتمل أن يكون عند النوم ، فيكون الإثناء عن الحق ، أو عن الله ، أو عند مواجهة الرسول ، فيكون الإثناء عن رؤيته ـ عليه الصلاة السلام ، أو عن سماع القرآن. قال تعالى : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) فى قلوبهم ، (وَما يُعْلِنُونَ) بأفواههم ، ـ فقد استوى فى علمه سرهم وعلانيتهم ، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه؟ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بالأسرار صاحبة الصدور ، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله : هذا كتاب أحكمت آياته بالتعريف بالذات ، ثم فصلت ببيان الصفات ، أو : أحكمت بتبيين الحقائق ، ثم فصلت بتبيين الشرائع. أو : أحكمت ببيان ما يتعلق بعالم الأرواح من التعريف ، ثم فصلت ببيان ما يتعلق بعالم الأشباح من التكليف ، أو : أحكمت ببيان أسرار الملكوت ، ثم فصلت ببيان أحكام الملك. ثم بيّن ما يتعلق بالذات فقال : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ، وبيّن ما يتعلق بالصفات من التفصيل فقال : (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) ، أو : بيّن ما يتعلق بالحقائق ، ثم ما يتعلق بالشرائع ، وهكذا. فإن جمعتم بين الحقائق والشرائع يمتعكم متاعا حسنا ؛ بشهود ذاته ، والتنزه فى أنوار صفاته ، إلى أجل مسمى ، وهو : النزول فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ويؤت كل ذى فضل من المعرفة جزاء فضله من الشهود ، فمن تولى عن هذا خاف من عذاب يوم كبير ، وهو : غم الحجاب ، والتخلف عن الأحباب. ثم عاتب أهل الشهود حيث تركوا مقام المشاهدة وتنزلوا إلى مقام المراقبة ، بقوله : (ألا إنهم يثنون صدورهم ...) الآية.
ثم بيّن كمال علمه تكميلا لقوله : (يعلم ما يسرون وما يعلنون) ، فقال :
(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦))
يقول الحق جل جلاله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) أي : كل ما يدب عليها ؛ عاقلا أو غيره ، (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ؛ غذاؤها ومعاشها ؛ لتكفله إياه بذلك ؛ تفضلا وإحسانا. وإنما أتى بعلى التي تقتضى الوجوب ؛ تحقيقا لوصوله ، وتهييجا على التوكل وقطع الوساوس فيه ، (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) ؛ أماكنها فى الحياة والممات ، أو الأصلاب والأرحام. أو : مستقرها فى الأرض بعد وجودها ، ومستودعها : موادها قبل إيجادها. أو بالعكس : مستقرها : موادها فى العلم قبل الظهور ، ومستودعها : إقامتها فى الدنيا بعد الوجود. (كُلٌ) واحد من الدواب على اختلاف أجناسها وأصنافها (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ؛ مذكور فى اللوح المحفوظ ، أو فى العلم القديم المبين للأشياء ، قال البيضاوي : وكأنه أريد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها ، وبما بعدها بيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها ، تقريرا للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد. ه.