والإكثار من الطاعة والخضوع والافتقار ، والتمسك بالذل والانكسار. قال تعالى فى بعض الأخبار : «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى» وبالله التوفيق.
كما أشار إلى ذلك بقوله :
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) هداية الخلق كلهم (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) بحيث لا يتخلف عنه أحد ، لكن حكمته اقتضت وجود الخلاف ، فمن رام اتفاقهم على الإيمان فقد رام المحال ، ولذلك قال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) بالقهر على ما لم يشأ الله منهم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) كلهم.
قال البيضاوي : وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء ، وإيلاؤها حرف الاستفهام الإنكارى ، وتقديم الضمير على الفعل ، للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل ، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه فضلا عن الحث والتحريض عليه ، إذ روى أنه ـ عليه الصلاة السلام ـ كان حريصا على إيمان قومه ، شديد الاهتمام به ، فنزلت ، ولذلك قرره بقوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ؛ بمشيئته وألطافه وتوفيقه ؛ فلا تجهد نفسك فى هداها ، فإنه إلى الله تعالى. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) : العذاب أو الخذلان فإنه سببه (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) : لا يستعملون عقولهم بالنظر فى الحجج والآيات ، أو لا يعقلون دلائل القرآن وأحكامه ؛ لما على قلوبهم من الطبع. ويؤيد الأول قوله (قُلِ انْظُرُوا ...) إلخ. ه.
الإشارة : فى الآية تسلية لأهل التذكير حين يرون الناس لم ينفع فيهم تذكيرهم ، وفيها تأديب لمن حرص على هداية الناس كلهم ، أو يتمنى أن يكونوا كلهم خصوصا ، فإن هذا خلاف حكمته تعالى. قال تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١) فالداعون إلى الله لا يكونون حرصا على الناس أبدا ، بل يدعون إلى الله ، ويذكّرون بالله ، وينظرون ما يفعل الله اقتداء بنبي الله ، بعد أن علمه الله كيف يكون مع عباد الله. والله تعالى أعلم.
ثم أمر باستعمال العقل فى التفكر والاعتبار ، فقال :
(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))
__________________
(١) من الآية ١١٨ من سورة هود.