يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) أي : ثبتت (عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بأنهم لا يؤمنون ، أو بأنهم مخلدون فى العذاب (لا يُؤْمِنُونَ) أبدا ؛ إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه ، (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) وعاينوها فإن السبب الأصلى لإيمانهم هو تعلق إرادته تعالى ، وقد أراد خلافه ، فلا يؤمنوا (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وحينئذ لا ينفعهم ، كما لم ينفع فرعون ، وبالله التوفيق.
الإشارة : من انتكبه التوفيق لا يصدق بأهل التحقيق ، ولو رأى منهم ألف كرامة ، فلا تنفك عنه الشكوك والأوهام ؛ حتى يفضى إلى شرب كأس الحمام ، فيلقى الله بقلب سقيم ، وربما مات على الشك ، فيلحقه العذاب الأليم ، عائذا بالله من ذلك.
ثم وبخ من فوت إيمانه عن وقته ، فقال :
(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨))
قلت : (فلو لا) تحضيضية ، و (إلا قوم يونس) : استثناء منقطع ، ويجوز الاتصال ؛ فيكون الاستثناء من معنى النفي الذي تضمنه حرف التحضيض ؛ لأن المراد بالقرى : أهلها ، كأنه قال : ما آمن أهل قرية من القرى الماضية فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ، ويؤيده قراءة الرفع. و «يونس» : عجمى مثلث النون.
يقول الحق جل جلاله : (فَلَوْ لا كانَتْ) هلا وجدت (قَرْيَةٌ) من القرى التي أهلكناها (آمَنَتْ) قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخر الإيمان إلى نزوله كما فعل فرعون ، (فَنَفَعَها) حينئذ (إِيمانُها) بأن يقبله الله منها ؛ فيكشف عنها العذاب ، (إِلَّا) لكن (قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، فرفعنا عنهم العذاب حين آمنوا بعد أن ظهرت مخايله ، فنجوا (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) : إلى تمام آجالهم.
روى أن يونس عليهالسلام بعث إلى أهل نينوى من الموصل ، فكذبوه وأصروا على تكذيبه ، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث ، فلما دنا الموعد وأغامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشى مدينتهم ، فهابوا ، فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه ، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرقوا بين كل والدة وولدها ، فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والضجيج ، وأخلصوا التوبة والإيمان ، وتضرعوا إلى الله تعالى ، فرحمهم وكشف العذاب عنهم ، وكان يوم عاشوراء ويوم الجمعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للعبد أن يعتنى بتربية إيمانه وتقوية إيقانه قبل فوات إبّانه ، وهو انصرام أجله. وتربيته تكون بصحبة أهل اليقين ، فإن لم يعثر بهم فبمطالعة كتبهم ، والوقوف على أخبارهم ومناقبهم ، مع دوام التفكر والاعتبار ،