(وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) ؛ فالهدى لإصلاح الظواهر بالشرائع ، والنور لإصلاح الضمائر بالعقائد الصحيحة والحقائق الربانية ، (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) بتقرير أحكامها ، والشهادة على صحتها ، (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي : وإرشادا وتذكيرا للمتقين ؛ لأنهم هم الذين ينفع فيهم الموعظة والتذكير ، دون المنهمكين فى الغفلة ، قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يسمعون.
ثم أمر الله أهل الإنجيل بالحكم بما فيه ، فقال : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) من الأحكام ، وقرأ حمزة : (وليحكم) بلام الجر ؛ أي : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل بما فيه ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ؛ الخارجون عن طاعة الحق. قال البيضاوي : والآية تدل على أن الإنجيل مشتملة على الأحكام ، وأن اليهودية منسوخة ببعث عيسى عليهالسلام ، وأنه كان مستقلا بالشرع. وحملها على : وليحكموا بما أنزل الله ، فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر. ه.
الإشارة : قد جمع الله فى هذه الأمة المحمدية ما افترق فى غيرها فى الأزمنة المتقدمة ، فعلماؤها وأولياؤها كالأنبياء والرسل ، كلما مات عالم أو ولى قفاه الله بآخر ، أما العلماء فأمرهم متفق وحالهم متقارب ، فمدار أمرهم على تحصيل العلوم الرسمية والأعمال الظاهرية ، وأما الأولياء ـ رضى الله عنهم ـ ، فأحوالهم مختلفة ، فمنهم من يكون على قدم نوح عليهالسلام فى القوة والشدة ، ومنهم من يكون على قدم إبراهيم عليهالسلام فى الحنانة والشفقة. ومنهم من يكون على قدم موسى عليهالسلام فى القوة أيضا ، ومنهم من يكون على قدم عيسى عليهالسلام فى الزهد والانقطاع إلى الله تعالى ، ومنهم من يكون على قدم نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو أعظمهم لجمعه ما افترق فى غيره ، وكل واحد يؤتيه الله نورا فى الباطن يجذب به القلوب إلى الحضرة ، وهدى فى الظاهر يصلح به الظواهر فى الشريعة. والله تعالى أعلم.
ثم شرع يتكلم مع الأمة الإسلامية المحمدية ، فقال :
(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨))
قلت : (مهيمنا) أي : شاهدا ، والشرعة والمنهاج : قال ابن عطية : معناهما واحد ، وقال ابن عباس : أي : سبيلا وسنة. قلت : والظاهر : أن الشرعة يراد بها الأحكام الظاهرة ، وهى التي تصلح الظواهر ، والمنهاج يراد به علوم الطريقة الباطنية ، وهى التي تصلح الضمائر ، وهو مضمن علم التصوف.