وفيه دليل على أن الحدود مكفرة لا زواجر ، وزعم ابن العربي : أن المقتول يطالب يوم القيامة ، ولو قتل فى الدنيا قصاصا ؛ لأنه لم يتحصل للمقتول من قتل قاتله شىء ، وأن القصاص إنما هو ردع ، وأجيب بمنع أنه لم يتحصل له شىء ، بل حصلت له الشهادة وتكفير لذنوبه ، كما فى الحديث : «السيف محاء للخطايا» (١). ولو كان القصاص للردع خاصة لم يشرع العفو ، قاله ابن حجر ، وفى حديث البخاري : «من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا ، فهو كفارة له ، وإن ستره الله فهو فى المشيئة».
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القصاص وغيره (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ؛ المتجاوزون حدود الله ، وما كتب الله على بنى إسرائيل هو أيضا مكتوب علينا ، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، ولا ناسخ هنا ، بل قررته السنة والإجماع. والله تعالى أعلم.
الإشارة : القصاص مشروع وهو من حقوق النفس ؛ لأنها تطلبه تشفيا وغيظا ، والعفو مطلوب ومرغب فيه ، وهو من حقوق الله ، هو طالبه منك ، وأين ما تطلبه لنفسك مما هو طالبه منك؟ ومن شأن الصوفية الأخذ بالعزائم ، واتباع أحسن المذاهب ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٢) ، ومن شأنهم أيضا : الغيبة عن حظوظ النفس ، ولذلك قالوا : (الصوفي دمه هدر ، وماله مباح) ، وقالوا أيضا : (الصوفي كالأرض ، يطرح عليها كل قبيح ، وهى تنبت كلّ مليح) ، ـ ومن أوكد الأمور عندهم عدم الانتصار لأنفسهم. وبالله التوفيق.
ولما فرغ من الكلام مع اليهود شرع يتكلم مع النصارى ، فقال :
(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))
قلت : (قفينا) : اتبعنا ، مشتق من القفا ؛ كأن مجىء عيسى كان فى قفا مجىء النبيين وخلفهم ، وحذف المفعول الأول ، أي : أتبعناهم ، و (بِعِيسَى) مفعول ثان ، وجملة : (فيه هدى ونور) : حال من «الإنجيل» ، و (مصدقا) : عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : وأتبعنا النبيين المتقدمين وجئنا على إثرهم (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : ما تقدم أمامه (مِنَ التَّوْراةِ) وتصديقه للتوراة ؛ إما لكونه مذكورا فيها ثم ظهر ، أو بموافقة ما جاء به من التوحيد والأحكام لما فيها ، أو لكونه صدّق بها وعمل بما فيها.
__________________
(١) جزء من حديث أخرجه أحمد فى المسند ٤ / ١٨٥. من حديث عتبة بن عبد السلمى.
(٢) من الآية : ١٨ من سورة الزمر.