وقال الهروي : الفقر صفة مهجورة ، وهو ألدّ ما يناله العارف ، لكونها تدخله على الله ، وتجلسه بين يدى الله ، وهو أعلم المقامات حكما ؛ لقطع العوائق ، والتجرد من العلائق ، واشتغال القلب بالله. قيل : الفقير الصادق لا يملك ولا يملك. وقال الشبلي : الفقير لا يستغنى بشىء دون الله. وقال الشيخ ابن سبعين رضى الله عنه : الفقير هو الذي لا يحصره الكون. ه. يعنى : لخروج فكرته عن دائرة الأكوان. وقال القشيري : الفقير الصادق عندهم : من لا سماء تظله ، ولا أرض تقلّه ، ولا سهم يتناوله ، ولا معلوم يشغله ، فهو عبد الله بالله. ه.
وقال السهروردي فى عوارفه : الفقر أساس التصوف ، وبه قوامه ، ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر ؛ لأن التصوف اسم جامع لمعانى الفقر والزهد ، مع زيادة أحوال لا بد منها للصوفي ، وإن كان فقيرا زاهدا. وقال بعضهم : نهاية الفقر بداية التصوف ؛ لأن التصوف اسم جامع لكل خلق سني ، والخروج من كل خلق دنى ، لكنهم اتفقوا ألّا دخول على الله إلا من باب الفقر ، ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشىء مما أشار إليه القوم.
وقال أبو إسحاق الهروي أيضا : من أراد أن يبلغ الشرف كل الشرف ؛ فليختر سبعا على سبع ، فإن الصالحين اختاروها حتى بلغوا سنام الخير. اختاروا الفقر على الغنى ، والجوع على الشبع ؛ والدّون على المرتفع ، والذلّ على العز ، والتواضع على الكبر ، والحزن على الفرح ، والموت على الحياة. ه. وقال بعضهم : إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى ؛ حذرا أن يدخله ؛ فيفسد عليه فقره ، كما يحترز الغنى من الفقر ؛ حذرا أن يفسد عليه غناه.
قال بعض الصالحين : كان لى مال ، فرأيت فقيرا فى الحرم جالسا منذ أيام ، ولا يأكل ولا يشرب وعليه أطمار رثة ، فقلت : أعينه بهذا المال ؛ فألقيته فى حجره ، وقلت : استعن بهذا على دنياك ، فنفض بها فى الحصباء ، وقال لى : اشتريت هذه الجلسة مع ربى بما ملكت ، وأنت تفسدها علىّ؟ ثم انصرف وتركنى ألقطها. فو الله ما رأيت أعز منه لمّا بدّدها ، ولا أذل منى لما كنت ألقطها. ه.
وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيىء ؛ أصبح حزينا ، وإذا لم يصبح عنده شيىء ؛ أصبح فرحا مسرورا ، فقيل له : إنما الناس بعكس هذا ، فقال : إنى إذا لم يصبح عندى شىء فلى برسول الله صلىاللهعليهوسلم أسوة ، وإذا أصبح لى شىء لم يكن لى برسول الله صلىاللهعليهوسلم أسوة حسنة. ه. وجمهور الصوفية : يفضلون الفقير الصابر على الغنى الشاكر ، ويفضلون الفقر فى الجملة على الغنى ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ اختاره ، وما كان ليختار المفضول. وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء.