فإيمانهم فى الجانبين كلا إيمان ، (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنهم يحلون الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ، وغير ذلك مما حرمته الشريعة المحمدية ، (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي : لا يدخلون فى الإسلام ، الذي هو الدين الحق ، الناسخ لسائر الأديان ومبطلها.
ثم بيّن الذين أمر الله بقتالهم بقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ؛ وهم اليهود والنصارى. وحين نزلت خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم لغزوة تبوك لقتال النصارى ، ووصل إلى أوائل بلد العدو ، فصالح أهل أدرج وأيلة ، وغيرهما ، على الجزية وانصرف ، وذلك امتثال للآية.
قال تعالى : فقاتلوهم (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي : ما تقرر عليهم أن يعطوه ، وقدرها عند مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الورق ، يؤخذ ذلك من كل رأس ، واتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى ، ويلحق بهم المجوس ؛ لقوله صلىاللهعليهوسلم : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» (١) ؛ لأن لهم شبهة كتاب ، فألحقوا بهم. واختلفوا فى قبولها من عبدة الأوثان ؛ قال مالك : تؤخذ من كل كافر إلا المرتد ، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين.
وقوله تعالى : (عَنْ يَدٍ) أي : يباشر إعطاءها بيده ، لا يبعثها مع أحد ، أو لا يمطل بها ، كقولك : يدا بيد ، أو عن استسلام وانقياد ، كقولك : ألقى فلان بيده. (وَهُمْ صاغِرُونَ) ؛ أذلاء محقورون. وعن ابن عباس رضى الله عنه : تؤخذ الجزية من الذمي ، وتوجأ عنقه ، أي : تصفع.
الإشارة : يؤمر المريد بقتل نفسه وحظوظه وهواه ، وأعظمها : حب الدنيا والرئاسة والجاه ، ولا يزال يخالف هواها ، ويعكس مراداتها ، ويحملها ما يثقل عليها ، حتى تنقاد إليه بالكلية ، بحيث لا يثقل عليه شىء ، ويستوى عندها العز والذل ، والفقر والغنى ، والمدح والذم ، والمنع والعطاء ، والفقد والوجد ، فإن استوت عندها هذه الأحوال فقد أسلمت وأعطت ما يجب عليها ، فيجب حفظها ورعايتها ، وتصديقها فيما يرد عليها. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الباعث على جهاد أهل الكتاب ، وهو فساد اعتقادهم ، فقال :
(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ
__________________
(١) أخرجه مالك فى الموطأ (الزكاة ، باب جزية أهل الكتاب والمجوس) والشافعي فى مسنده (الجزية) والبيهقي فى السنن الكبرى (٩ / ١٨٩) ، والبغوي فى شرح السنة (١١ / ١٦٩) عن عبد الرحمن بن عوف.