(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي : فقرا بسبب منع المشركين من الحرم ، وكانوا يجلبون لها الطعام ، فخاف الناس قلة القوت منها ، إذا انقطع المشركون عنهم ، فوعدهم الله بالغنى بقوله : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ؛ من عطائه وتفضله بوجه آخر ، وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ، وأسلمت العرب كلها ، وتمادى جلب الطعام إلى مكة ، ثم فتح عليهم البلاد ، وجلبت لهم الغنائم ، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض ، وما زال كذلك إلى الآن.
وقيده بالمشيئة ؛ لتنقطع الآمال إلى الله ، ولينبه على أنه متفضل فى ذلك ، وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض ، وفى عام دون عام ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم ، (حَكِيمٌ) فيما يعطى ويمنع.
الإشارة : بيوت الحضرة ـ وهى القلوب المقدسة ـ لا ينبغى أن يدخلها شىء من شرك الأسباب ، أو الوقوف مع رفق الأصحاب ، أو الركون إلى معلوم حتى يفرد التعلق بالحي القيوم ، ولا ينبغى أيضا أن يدخلها شىء من نجاسة حس الدنيا وأكدارها وأغيارها ، فيجب على أربابها الفرار من مواطن الكدر ، والعزلة عن أربابها ؛ لئلا يدخل فيها شىء من نجاستها ، فتموت بعد حياتها ، وكان عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول لأصحابه : (لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم ، قالوا : من الموتى يا روح الله؟ قال : المحبون للدنيا الراغبون فيها). فإن خفتم عيلة ؛ بالفرار منهم واعتزال نجاستهم ، فسوف يغنيكم الله من فضل غيبه إن شاء ، فى الوقت الذي يشاء ، إذ لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء. والله تعالى أعلم.
قال القشيري : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) أي : لأنهم فقدوا طهارة الأسرار ، فبقوا فى مزابل الظنون والأوهام ، فمنعوا قربان المساجد التي هى مساجد القرب ، وأمّا المؤمنون فطهّرهم عن التدنّس بشهود الأغيار ، فطالعوا الحقّ فردا فيما ينشيه من الأمر ويمضيه من الحكم. ه.
ثم أمر بجهاد أهل الكتاب ، فقال :
(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))
يقول الحق جل جلاله للمؤمنين : (قاتِلُوا) أهل الكتاب من اليهود والنصارى (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) على ما يجب له ، لإشراكهم عزير وعيسى ، ولتجسيمهم ، (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ؛ لأنهم ينكرون المعاد الجسماني ،